السبت 20 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
بوابة روز اليوسف

لا تتوقف الكتابات عن تجديد الفكر الإسلامى، بعضها من أساتذة شريعة وحديث ودعاة، ‏والتجديد فى الفكر الدينى «ضرورة حياتية»، لا يقل أهمية عن التجديد فى الفكر السياسى؛ ‏مؤسّسات ومواطنين وسُلطات؛ خصوصًا فى مجتمع مثل مجتمعنا، تبدو فيه تصرفات الناس ‏العامة والخاصة كما لو أنها محكومة بمفاهيم دينية، سواء كانت مفاهيم تتفق وصحيح الدين أو ‏مفاهيم شعبية متوارثة تبتعد مسافات عن مقاصد الدين، وكلنا شاهدنا فيديوهات الليلة الكبيرة ‏لمولد السيد البدوى فى طنطا، بما فيها من سلوكيات شعبية أثارت جدلاً عن علاقتها بالعقيدة ‏الإسلامية كما وردت فى القرآن والسُّنة المؤكدة.‏

وأى مجتمع يبحث عن ثغرة فى جدار التخلف إلى عالم متقدم علميًا واقتصاديًا وسياسيًا ‏وحضاريًا يلزمه حتمًا تجديد فكره الدينى، وتنقية مفاهيمه حتى يتجنب «الأسباب» التي تجعل ‏ناسه يركنون إلى التواكل لا التوكل، يبادرون إلى السعى وإتقان العمل لا القعود والأداء ‏الروتينى، يحترمون الطريق العام الذي إزالة الأذى عنه صدقة، لا الفوضى التي نمارسها ‏فى كل شارع، فتشيع فينا قيم الدين الصحيحة التي لا نتبعها ولا نُلزم أنفسنا بها ونغلو فى ‏مظاهرها فقط! ‏

ويبذل كثرة من علماء الدين جهدًا محمودًا فى تأصيل فكرة التجديد، وأن الإسلام لا يقف حجر ‏عثرة أمام المبتكر من الأفكار والظروف والأحداث التي تلاحق حياة الناس كل الوقت، لكنهم ‏لم يشرحوا أبدًا «أسباب» ضعف انتشار هذه الرؤى المجددة، ولماذا ظلت الأفكار الجامدة هى ‏صاحبة السيادة على العقل الجمعى، لا سيما عن المرأة والمواطنة والمخالفين فى الدين ‏والخلافة.. إلخ؛ بل لم يفسروا كيف ظهرت الجماعات الدينية المتطرفة وتنظيماتها المسلحة ‏وهى لا تمت لصحيح الدين بصِلة، ولماذا يتمسك مسلمون بأفكار ومفاهيم تخالف «الوسطية ‏والاعتدال»؟‏

أتصور أن فشل محاولات التجديد العميقة منذ الشيخ حسن العطار شيخ الجامع الأزهر فى ‏ثلاثينيات القرن التاسع عشر إلى الآن، سببه الحرص الشعبى على الجمود الدينى، الذي يغذيه ‏غالبية رجال دين، يحرسونه بكل ما يملكونه من طاقة وإصرار، ويناهضون أى أفكار لغيرهم ‏فى التجديد والتفكير، تحت زعم أنهم هم المتمسكون بثوابت الدين القابضون على الجمر فى ‏زمن تتفتت فيه المبادئ والقيم والأخلاق!‏

والمدهش أن كثيرًا من أصحاب العقل الجمعى السائد يدرسون علومًا حديثة كالطب والهندسة ‏والكمبيوتر وغيرها، لكنهم أخذوا هذه العلوم ورجعوا إلى الماضى؛ ليرسخوا تفسيرات ‏قديمة وأفكارًا قديمة، دون أن يحاولوا اختبار تلك التفسيرات والأفكار فى منهج مختلف عمّا ‏ورثوه وألفوه.‏

باختصار؛ نريد إعادة فحص تراثنا الفقهى، أفكارًا وتفسيرات أكسبناها قداسة مع مرور الزمن، ‏نريد قراءة هذا التراث بنظرة عصرية نقدية وفق مقاصد الشريعة الكلية؛ لنجفف منابع ‏التعصب والتطرف، وإذا لم نفعل ستظل مفاهيم إنتاج جماعات الإرهاب والتكفير تطاردنا.‏

نعم بعض رجال الدين يتحدثون عن التجديد، يقولون كلامًا عامًّا، يقصدون به تحسين مفردات ‏الخطاب الدينى بإضافة قدر من التسامح والرحمة والسلام والعدالة والتعاون مع الآخر ‏المختلف معنا فى الدين.‏

قطعًا هذا لا يكفى، مطلوب إعادة القراءة والدراسة، لأقوال كثيرة منسوبة للرسول صلى الله ‏عليه وسلم، وتفسيرات لآيات قرآنية فهمها مفسرون وآئمة وشيوخ ودعاة بطريقتهم، نريد ‏عملية تمحيص وتنقية وفق منهج علمى كالمناهج المعمول بها فى الدراسات الإنسانية ‏والاجتماعية، وداخل مقاصد الإسلام وهى معروفة.‏

قطعًا هذه عملية أشمل وأهم، يستحيل أن ينفرد بها نفرٌ من رجال الدين؛ لأن معظم الدارسين ‏فى المعاهد الدينية يركزون بالدرجة الأولى على علوم القرآن والسُّنة والسيرة والمذاهب ‏الفقهية، وهى علوم تأخذ من بعضها البعض نقلاً وحفظا، فظلت الأفكار تدور حول نفسها، أو ‏فى دوائر متشابهة دون إحداث نقلة فكرية كبيرة فى فهم النصوص ومراجعة التراث بعقلية ‏ناقدة محللة، يحكمها السؤال الصحيح وليس الإجابات المطلقة، والسؤال الصحيح هو أصل ‏المعرفة، ولنا مثال فى سيرة أبى الأنبياء إبراهيم، فحين سأل نفسه سؤالاً صحيحًا، عرف ‏الطريق إلى الله..‏

وأغلب أستاذة المعاهد الدينية الذين يتحدثون عن تجديد الفكر لا يسألون الأسئلة الصحيحة؛ ‏وإنما يسألون الأسئلة التي تحافظ على القديم وتحتفظ به وتقويه، ثم يضيفون قليلاً من ‏المحسنات اللفظية التي لا تشق طريقًا إلى العصر، ولا تنير عقول المتشدّدين والمتعصبين ‏وجماعات العنف، لهذا ظلت الأفكار المتعصبة العنيفة ممتدة فى الزمن والعقول.‏

ودعونى أضرب لكم مثالين، عن تجديد الخطاب الدينى، الأول لرجل دين شعبى، والآخر لعالم ‏متخرج من جامعة الأزهر، وقد اتفقا على شىء واحد وهو «أن تجديد الخطاب الدينى مقصود ‏به ضرب السُّنة النبوية وهدم القرآن»، ثم سار كل منهما فى دربه حسب دراسته وثقافته ‏العامة والخاصة..‏

الداعية الأول قال إن أعداء الإسلام من أبنائه، باعتبار أن الداعين إلى تجديد الخطاب الدينى ‏هم أصلاً من المسلمين، ثم حدد ثلاثة من هؤلاء الأعداء، هم: القرآنيون والعلمانيون وشيوخ ‏السراديب.. بالطبع لم أعثر على تعريف أو تحديد لـ«شيوخ السراديب»، لكنه وصف مثير ‏للغاية.. ثم عرج إلى لب الموضوع حسب تصوره، وهو علاقة الرجل والمرأة، العلاقة التي ‏تمثل دملاً فى عقل «الشرق» عامّة، ووجعًا فى أعصاب أغلب رجاله.. كما لو أن الدين أُنزل ‏خصيصًا لهذه العلاقة..‏

قال الداعية الشعبى: من مصلحة المرأة المسلمة أن تتحجب لأن الرجل لمّا يخرج من بيته ‏ويشوف ست غير محجبة سوف يمعن النظر إليها، ويعقد مقارنة بينها وبين امرأته فى البيت، ‏الست فى الشارع ما شاء الله برفان ومكياج، والست فى البيت طبيخ ورائحة بصل وثوم، ‏فالمقارنة ظالمة.. وهنا يتدخل الشيطان، لكن لو الرجل خرج ولقى كل الستات فى الشارع ‏محجبات لن تكون هناك مشكلة على الإطلاق، وعمومًا تعليق صور الزواج فى الصالون ‏حرام والتماثيل محرمة.‏

يا الله.. تخيلوا إنه يقول إن الحجاب فُرض من أجل حماية الرجل من وسوسة الشيطان، كما ‏لو أن الرجل يرفع غريزته المستعرة على كاهله ويمشى بها فى الطرقات، فيسقط فى الخطيئة ‏مع أول فرصة متاحة، والحل أن نجبره على محاسن الأخلاق بإغلاق كل سُبُل الوسوسة ‏أمامه، كى يدخل الجنة دون أى جهد منه!‏

الآخر دارس وباحث يقفز مباشرة إلى قلب النهر، إلى مصطلح تجديد الخطاب الدينى ويقول ‏إنه يجرى على ألسنة أدعياء التنوير وأقلامهم، والتقدميين من الليبراليين والعلمانيين ‏والتغريبيين ومن لف لفهم من عبيد الفكر الغربى، وهدفهم: «تغيير ثوابت الدين الإسلامى ‏وأصوله، وهدم قيمه ومبادئه؛ ليستبدلوا بها أخرى محرفة».‏

عريضة اتهامات، دون أن يوضح: هل هناك من دعاة تجديد الخطاب الدينى من أنكر أو طلب ‏تعديل ثوابت الإسلام من شهادة وصلاة وصوم وزكاة وحج للقادرين؟، هل منهم من أحل الزنا ‏والقمار والسرقة والقتل والكذب وأكل مال اليتامى..إلخ؟

ثم يطرح الشيخ الدارس بديلاً وهو: «تحديث وسائل الدعوة إلى الإسلام، والتجديد فيها، أو ‏بيان حكم الإسلام فى النوازل المستجدة، أو تنـزيل الحكم الشرعى على الواقع المعاش، أو ‏مراجعة التراث الفقهى مراجعة استفادة وتمحيص، وتقريب الفقه للناس وتيسيره».‏

باختصار؛ يدعونا إلى إعادة الدوران فى نفس الأفكار القديمة لكن بألفاظ عصرية، كما لو أن ‏الأزمة فى الألفاظ وليس فى بعض تفسيرات وأحكام صادرة من «بشر مثلنا» حسب زمنهم ‏وثقافتهم وسعة أفقهم والعلوم التي كانت متاحة لهم وقتها.‏

إنها معركة فكرية طويلة وصعبة، وإذا ظلت الأفكار القديمة مسيطرة فالمستقبل غامض ‏والإرهاب باسْم الدين سيظل سيفًا مسلطا على فرصة خروجنا من التخلف.

نقلاً عن مجلة روزاليوسف

تم نسخ الرابط