حينما يلتقي التراث بالفن والتاريخ بالحاضر
المهرجان القومي للتحطيب.. نبض التراث وروح الصعيد بالأقصر
في قلب الصعيد، حيث تمتزج الأرض بالتاريخ، وتتشابك الذاكرة الشعبية مع إيقاع الحياة اليومية، يظل التحطيب واحدًا من أصدق التعبيرات عن الروح المصرية الأصيلة.. لعبة شعبية لم تكن يومًا مجرد استعراض للقوة، بل طقسًا تراثيًا متكاملًا، يحمل في طياته معاني الفروسية، والنخوة، والاحترام، ويتوارثه الأبناء عن الأجداد منذ عصور المصريين القدماء.
منذ زمن بعيد، كان التحطيب حاضرًا في أفراح واحتفالات قرى ونجوع الصعيد، يُقام في الساحات الواسعة، على نغمات المزمار البلدي ودق الطبول، حيث يتواجه اللاعبون بالعصي في حلقات دائرية، تحكمها قواعد صارمة أهمها الأدب وضبط النفس.. فالفوز الحقيقي في التحطيب لا يُقاس بإيذاء الخصم، بل بالوصول إلى ما يُعرف بـ«الباب»، أي إثبات المهارة والقدرة على السيطرة دون عنف.
وفي عام 2016، نال التحطيب اعترافًا عالميًا بقيمته الثقافية، بعدما أدرجته منظمة اليونسكو ضمن قائمة التراث الثقافي الإنساني غير المادي، ليصبح شاهدًا حيًا على عمق التراث المصري، وأحد الرموز التي تعكس استمرارية الهوية الشعبية عبر العصور.
وانطلاقًا من هذا الإدراك لأهمية التراث، حرصت الهيئة العامة لقصور الثقافة على صون هذا الفن الشعبي الأصيل، عبر تنظيم المهرجان القومي للتحطيب بمحافظة الأقصر، الذي أصبح واحدًا من أبرز الفعاليات التراثية في صعيد مصر.
وعلى مدار 14 دورة ناجحة، رسّخ المهرجان حضوره كمنصة حقيقية لإحياء التحطيب وتقديمه للأجيال الجديدة في إطار فني وثقافي منظم.
شهدت الدورتان الأولى والثانية إقامة الفعاليات على المسرح المفتوح بقصر ثقافة الأقصر القديم، قبل أن تنتقل 11 دورة متتالية إلى ساحة أبو الحجاج الأقصري أمام معبد الأقصر، في مشهد يجمع بين عظمة المكان وثراء الموروث. كما استضافت قرية حسن فتحي بغرب الأقصر إحدى الدورات، في تأكيد على ارتباط التحطيب بالبيئة المعمارية والإنسانية للصعيد.
ويتابع المهرجان سنويًا الآلاف من أهالي الأقصر وزائريها، الذين يجدون فيه تجسيدًا حقيقيًا لـ«لعبة الرجالة» وروح الصعيد النبيلة، حيث يلتقي التراث بالفن، والتاريخ بالحاضر.
وتأتي الدورة الخامسة عشرة هذا العام بروح خاصة، إذ تنطلق فعالياتها اليوم 20 الى 24 ديسمبر 2025، تحت رعاية الدكتور أحمد فؤاد هنو وزير الثقافة، وتنظيم الهيئة العامة لقصور الثقافة برئاسة اللواء خالد اللبان.
ويشهد حفل الافتتاح مساء السبت 20 ديسمبر في تمام السابعة، عرضًا فنيًا مجمعًا، بمشاركة فرق الفنون الشعبية من بني سويف، المنيا، ملوي، سوهاج، أسيوط، قنا، الأقصر، إلى جانب فرقة النيل للآلات الشعبية، وبمشاركة لاعبي وشيوخ التحطيب من محافظات سوهاج والمنيا والأقصر وقنا.
وتتواصل الفعاليات يوميًا من 21 إلى 23 ديسمبر، حيث تُقام حلقات التحطيب من الرابعة حتى السادسة مساءً، بمشاركة نخبة من الشيوخ واللاعبين، يعقبها عروض فنية لفرق الفنون الشعبية المشاركة في السابعة مساءً، فيما يُختتم المهرجان بحفل كبير يوم 24 ديسمبر في السابعة مساءً، بعرض فني مجمع يشارك فيه جميع الفرق ولاعبو التحطيب، من إخراج الفنان أحمد الشافعي، رئيس الإدارة المركزية للشئون الفنية بالهيئة العامة لقصور الثقافة.
وتُقام جميع الفعاليات في ساحة أبوالحجاج الأقصري أمام معبد الأقصر، لتتحول الساحة إلى مسرح مفتوح يحتفي بتراث حيّ، يؤكد أن التحطيب ليس مجرد لعبة، بل نبض متجدد للهوية المصرية، ورسالة تقول إن تراث الصعيد لا يزال حيًا… يتنفس، ويقاوم النسيان.





