صبري موسى.. مكتشف الذات الملعونة بشرِّها
كتب - مصطفى سيف
غاص في أعماق النفس ، فاكتشف ما بها من فساد طبع على الأماكن، فآثر السلامة راحلًا تاركًا الحياة تنعيه، وقلوب محبيه تنبض خافتة لفراقِ رجلٍ لم ينل ما يستحق في هذه الحياة، وتنبأ بحياته من خلال روايته الأشهر "فساد الأمكنة".
صبري موسى، الذي وُلد في دمياط 1932، هو صاحب أشهر رواية في تاريخ الأدب العربي التي غاصت في أعماق النفس وتناولت الصراع بداخلها بين الخير والشر من خلال رحالة روسي يُدعى "نيكولا"، الذي يموت في آخر الرواية وحيدًا.
في بدايات الحياة العملية ليس كل المأمول يتحقق، ولكن الطريق إليه يكون موجود بالإرهاصات التي ترفعك درجة أخرى في سُلَّم الحياة، هكذا هو صبري موسى فبعد تخرُّجه عمل مدرسًا للرسم لأنّه تخرّج في كلية الفنون التطبيقية.

فساد الأمكنة
على الرغم من أنَّه يُعّد من أبرز كُتّاب القصة في مصر والعالم العربي، إلا أنَّه روايته "فساد الأمكنة" هي العلامة الأبرز في تاريخه، إضافة إلى رواية "السيد من حقل السبانخ" التي تنبأت بإفساد الإنسان لبيئة الأرض، وهجرته لكوكب آخر.
علاوة على إطلاقه العنان لخياله في رواية "فساد الأمكنة" إلا أنَّه أيضًا لم يخفِ ارتحاله وسفره لجبل الدرهيب في الصحراء الشرقية قرب حدود السودان الذي منه وُلدت فكرة الرواية.
لم يكن صبري موسى من أولئك الذين يتاجرون بأدبهم؛ فيرى البعض أنَّ روايته "فساد الأمكنة" أُطمرت بسبب ذلك، لأنه لم يرغب في أنَّ يخرج إلى الشاشات ويتحدث عن روايته، وعن رحلته فيها، وكيف كتبها.. وإلخ.
في هذه الرواية كان البطل كثير الاندهاش وتلك هي فاجعته؛ حتى أنَّ صبري موسى عبّر بذلك بقوله: "كانت فاجعته في كثرة اندهاشه, وكان كل شيء يحدث أمام عينيه جديدًا يلقاه بحب الطفل, لدرجة أنَّه لم يتعلم أبدًا من التجارب".
يعتبر إبراهيم عبد المجيد، أنَّ صبري موسى "من الجيل الذي فهم الفنون على حقيقتها باعتبارها تجليات لنشاط الإنسان، وليست وظيفة يقوم بها، ومن ثمَّ هو يمشي وراء مواهبه".

السيد من حقل سبانخ
الرواية مأساة محكمة لعالم فقد السيطرة على نفسه فسمح للآلة أن تستعبده، لكننا في هذه المأساة نجد أن الصراع الحقيقي يبدأ وينتهي قبل زمن الرواية، بل قبل زمن الحرب الإلكترونية الأولى، فالسيد هومو بطل الرواية موظف في مركز زراعة السبانخ، يتوقف يومًا عن مسار حياته المرسوم ليفكر في شئ ما.
هذا التوقف يتسبب في عدم لحاقه برحلته المنزلية المعتادة، وهنا يحدث الخلل في البرنامج اليومي للسيد هومو، هذا الخلل البسيط الذي يزداد مع مرور الوقت يتحول لشرخ كبير ينتهي بانهيار الحياة العادية الروتينية للسيد هومو.
ربما يقول البعض أنَّ جورج أوريل، في روايته "1984" كتب هذا خاصة وأنَّها نُشرتْ عام 1949 في أنها تُحكم الإطار على الإنسان الذي خاض الحرب ضد نفسه، ولم يتبق له ذرة أمل؛ إلا أنَّ رواية "موسى" تشير إلى أنَّ الأمل لذلك موجودًا.
ويبعث من خلالها "السيد" أنَّ مسيرة التقدم في حياة الإنسان، قد تطغى عليه الأمر الذي يجعله يفقد بعضًا من صفاته البشرية، والتي كانت تميزه قديمًا، لذلك يرى "موسى" من خلال "السيد" أنَّ رجوعه للوراء مغاير لمسيرة التقدم تمامًا، فهو يقف "بين-بين" إمّا الحفاظ على صفاتك الكلاسيكية أو النجاة ببعضها والعبور للمستقبل.
وعبَّر "موسى" من خلال سرده ف الرواية أنَّ النظام القائم في العالم لن يجعل أحد يتوقف عن متابعة حياته الروتينية فيقول: ""إلا أنّ النظام يرى بوادر الخطر تطل برأسها في السنوات الأخيرة عبر هذه الحالات الشاذة لهؤلاء السادة الذين يتوقفون عن متابعة تيار حياتهم اليومي".

التنبؤ لدى صبري موسى
"موسى" لم يسر من طريق قد سار فيه أحدٌ قبله، لذلك فرواياته دائمًا ترشدك إلى أنَّ ذلك حدث، وذلك سيحدث، كان دائم الطرق على أبوابٍ غير تقليدية، أو حتى فكَّر أحدٌ ذات مرة أن يطرقها، لذلك لمع اسمه ضمن أولئك المتنبئون بالحياة.
فتقريبًا الثلاث روايات التي كتبها صبري موسى بين فساد الأمكنة، والسيد من حقل السبانخ، وحادث النصف متر، كانت تدق ناقوس الخطر في شيء ما سيحدث في المستقبل، لم يسير في الدرب المرسوم للجميع ليسيروا فيه، بل خرج وأعلن التمرد على التابوهات التي كان يتناوله أبناء الثمانينات فما أعلى.
حتى رواية النصف متر، التي كان بطلها يقيم علاقة غير شرعية مع بطلة الرواية، إلا أنَّه في النهاية لم يتزوجها لأنه لن يتزوج بفتاة ارتبط بها قبل الزواج، هذه الرواية "قد يراها البعض تقليدية" إلا أنَّها في الحقيقة عبَّرت عن غضبٍ يضيق به صدر الفتيات اللائي يأتمن الحبيب على أنفسهم.
إذا نظرنا للواقع الذي نعيشه حاليًّا؛ نجد أنّ هذا أمر العلاقات غير الشرعية ساد وانتشر خاصة مع وجود وسائل التواصل الاجتماعي المهولة، التي تنوّعت وتشعبت وجعلت العالم أقرب من جارك الذي يسكن معك في بيتٍ واحدٍ.

لغة صبري موسى
وأنتَ تقرأ تشعر من خلال لغة الكاتب إذا كان منفعلًا أم هادئًا، وذلك من خلال الكلمات التي يستخدمها وتظهر أحيانًا غِلظْ أو لين الكلام، لغة صبري موسى هي لغة هادئة جدًا، حتى وهو يصوِّر الصراعات داخل روايته.
قد يخلط البعض بين عاطفته أثناء كتابة الرواية، وبين عقله، ويظهر ذلك جليًّا من خلال كتابته إلا أنَ موسى نجح في أن يتخلص من ذلك بطريقة محايدة، ويسيطر تمامًا على الكلمات ويسوقها، فهناك من يترك نفسه لتسوقه اللغة، إلا أنَّ موسى لم يفعل ذلك، خاصة في رواية "حادث النصف متر" التي ظهرت من خلالها اللغة رشيقة جدًا، وشعرية ومناسبة، وتبدو أكثر تماسكًا من كثير من روايات اليوم.
كثير من النقّاد، رأوا في موسى الملهم والمتنبئ بصراعات الإنسان، ودواخله، وكيف سيقودنا ذلك التسارع إلى التكنولوجيا في النهاية من خلال رواياته.

.jpg)
الجانب القصصي
نالت القصة أيضًا نصيبًا من "موسى"، فله الكثير من القصص مثل المجموعة القصصية "القميص"، و"حكايات صبري موسى"، و"وجها لظهر" و"مشروع قتل جارة"، و"السيدة التي.. والرجل الذي لم!".
البعض يرى أنَّ مجموعاته القصصية هي نموذج مبدئي لسيناريو لم يكتمل، خاصة وأنَّ الانتاج السينمائي لـ"موسى" يفوق رواياته وقصصه، إلا أنّها لم تكن هي السبيل إلى عالميته، وربما لأن موسى حين شرع في الكتابة والنشر كانت الرواية، فيبدو من المجموعات القصصية التي نشرها أنّها أيضًا مشاريع لروايات تحكي تفاصيل، وتتناول جوانب خفية في شخصيات أوردها فيها.



