السبت 20 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

خيري شلبي ..الشرير الذي عشقناه

خيري شلبي ..الشرير
خيري شلبي ..الشرير الذي عشقناه
كتب - مصطفى سيف

ظلَّ يحكي عن الفقراء والمهمشين حتى رحل ليبدأ الحكي عنه، عاش ومات بسيطًا، لا يشغل باله بجوائزٍ أو باهتمام من أحد؛ لا يُصَنِّف نفسه قاصًّا أو روائيًّا، وإنما "حكواتي"؛ يصف نفسه بالمجنون الشرير؛ لأنَّه لو كان غير ذلك؛ لكان آخر غير خيري شلبي.

خيري شلبي، المولود في 31 يناير 1938، حلّت أمس ذكرى ميلاده، ربما هو الأكثر غزارة في انتاجه الأدبي من أبناء عصره وجيله والتي تمثَّل عدسة "متحركة" في أحياء القاهرة الفقيرة، فهو يستطيع أن يجعلك داخل المشهد وكأنك تسير وترى كل هذا أمامك.

لم ينل بحق ما يستحق؛ فحتى الآن وخاصة بعد رحيل "الحكواتي" لم تُصدر الهيئة العامة للكتاب أو حتى هيئة قصور الثقافة كتابًا شاملًا يجمع أعماله، مثلما تفعل مع أغلب الكُتّاب الراحلين، وكأنّه لم يكن من المؤثرين في أدب مصر المعاصر، على الرغم من تأثيره الهائل فيه بحكاياته التي ركّز فيها على من أُهملتهم من الدولة.

يحاكم طه حسين

"مستقبلك مرهون بأن تبدأ حياتك من حيث لا تملك شيئًا على الإطلاق"؛ فقيرًا بدأ حياته؛ هو من الذين يمكن أن نصفهم بـ"المقهورين في الأرض" بالنظر إلى الوظائف التي امتهنها مثل "الكمسري" و"القهوجي" و"عامل التراحيل".

هذه المهن جعلت خياله خصبًا بما يكفي لأن يتحدث عن المهمشين والفقراء، حتى حين اتجه للقاهرة؛ لم ينشغل بالأحياء الراقية مثل الكُتّاب من جيل عصره؛ وإنما انشغل بالأحياء الفقيرة فيها، وتناول مشاكلهم وعيشتهم "الضنكة" خاصة سُكّان المقابر.

واصفًا نفسه بـ"ابن الخيال الشعبي والسير والملاحم والفلكلور" كان يتخذ الحياة "قماشة" يُفصّلها في شكل أدبي روائي كان أو قصصي، حتى إن قال ذات مرةٍ: "أكاد أزعم بالفعل أن كل ما كتبته من رواية أو حتى أقصوصة من نصف صفحة كان تجربة فنية نابعة من تجربة حياتية".

 ملكة البحث عند "الحكواتي" تظهر أكثر في المسرحيات؛ فهو الذي اكتشف أكثر من 200 مسرحية مطبوعة في القرن الـ19، والـ20، وذلك كان خلال فترة السبعينيات من القرن العشرين.

خيري شلبي هو الذي اكتشف أوراق تحقيقات النيابة في قضية "كتاب الشعر الجاهلي" التي رُفعت ضد طه حسين، وكان ورقًا مهترئًا، لكنّه واضحًا، الأمر الذي أدى لإخراجه في صورة كتاب بعنوان "محاكمة طه حسين" الذي كتبه "الحكواتي".

من حبّه في الكتابة، يروي هشام أصلان في حوار لـ"دويتش فيله" إنَّه كان يحادثه قبل موته وسأله عن عنوان الجزء الثالث للكوميديا الإلهية لـ"دانتي" لأنه كان يريد أن يضعها عنوانًا لمقال يكتبه، وحين سُئل عن وفاته وهو يكتب؛ قال "أصلان": "نعم، لا أعرف ما إذا كان قد انتهى من كتابة المقال".

للسينما والتلفزيون والإذاعة أيضًا نصيب نالته وأضاف إليها من خلال أعمال "الحكواتي" الذي استطاع أن يُخلّد ذكره واسمه لدى المواطن البسيط الذي لا يعرف القراءة والكتابة، من خلال رواياتة التي تحولت الي دراما تلفزيونية وإذاعية حفظت مكانها في الذاكرة.

أبرز تلك الأعمال هو مسلسل الوتد، الذي أدت دور البطولة فيه الفنانة الراحلة، هدى سلطان، والممثل المعتزل، يوسف شعبان، والذي كتب فيه "شلبي" عن الريف الحقيقي بفقره المدقع، وكيفية التحوّل والحركة فيه.

"وكالة عطية" أيضًا من الأعمال التلفزيونية "مسلسل" الذي أدى دور البطولة فيه حسين فهمي عام 2009؛ إلا أنَّ البعض يرى أن هذا المسلسل لم يحقق نجاحًا كبيرًا مثل "الكومي" الذي أدى دور البطولة فيه إلهام شاهين وممدوح عبد العليم.

 خيري شلبي غرق في المجتمع  بكل تفاصيله، فأصغر تفصيلة كان يستطيع أن يصنع منها أعظم قصة، وذلك ما ميّزه عن أبناء جيله، خاصة أنَّه استطاع أن يدمج ما بين الحياة والكتابة.

حين تصل إلى العالمية بترجمة رواياتك "على صعوبتها لأنها تتناول المهمشين والفقراء"؛ حينها تشعر أن كل شيء صار سهلًا، فروايات مثل الأوباش، الوتد، فرعان من الصبار، بطن البقرة، وكالة عطية، تُرجموا للروسية، والصينية، والإنجليزية، والفرنسية.

إذا لم تكن من الذين يقرأون لخيري شلبي؛ فعليك أن تعرف أن تاريخ المواطن المصري أثناء الملكية، وما بعدها من ثورة يوليو، فاتك منه الكثير من الناحية الاجتماعية وليس السياسية؛ فالتصوير الذي تراه في رواياته هو حقيقة كانت تحدث في الواقع المرير.

 

 

 

 

السنيورة والاوباش

"الحكواتي" يحكي في هذه الرواية عن القرية وعمال الأنفار، ومُلّاك الأراضي الذين يسخرون الناس لأهوائهم، ليس هناك هذه المرة أرضًا تُحرث بل رجالًا ترقص لتختار السنيورة منهم من يصلح للخدمة، فالجميع يريد أن تختاره السنيورة بالرغم من أن كل من اختارتهم عادوا بعدها بسنوات قليلة مقطوعي الرأس.

لذلك يحاول "شلبي" من خلالها أن يُصوِّر فكرة "السعي وراء الوهم" والتي يمكن إسقاطها على الكثير من الأشياء، يمكن أن تكون في نظرة الريفيين للسفر للمدينة، أو تحمل معنى وجودي عن الحياة، فالرواية تحفة فنية تحمل العديد من الدلالات.

"الاوباش " رواية صدرت للمرة الأولى 1978، ومارس فيها "شلبي" هوايته المفضلة في الحديث عن الفلاحين والجهلاء والأوباش الذين توقف بهم الزمن عند فترة الملكية، وتتعرض للظلم الذي يتعرض له الفلاحين.

فالرواية حدوتة من قرية منسية من قلب الدلتا، يعمل رجالها كعمال تراحيل، يتم جمعهم وترحيلهم بواسطة مقاولين الأنفار للعمل بالسخرة في القري البعيدة، عمال كُتب عليهم الشقاء بأن يعاملوا كحيوانات تنام في الإسطبل، وتُساق للعمل بضرب الكرابيج.

وتتناول أيضًا قصة حياة الطفل طلعت الذي يأتي للعمل مع جده في القرية فيقع بيديه ظرف كبير هذا الظرف فيه حكاية البلد، والسرقات التي وقعت فيها، والمصالح التي كان يديرها شيخ البلد، بالتعاون مع العمدة، والناظر.

 

 

الوتد  من خلال القراءة لا تدري إذا كانت رواية أم مجموعة قصصية، إلا أنَّ البعض الأغلب يصنفها على أنّها رواية؛ وإذا ما اعتبرناها مجموعة قصصية فيمكن أن تستقل كل حكاية بداخل الكتاب بنفسها، وإذا اعتبرناها رواية فهي في النهاية وحدة متكاملة يمكن أن يُكمل كل فصل فيها الآخر ( وهي تشمل 4 فصول)

الفصل الأول "الوتد"؛ من خلاله يستعرض "الحكواتي"  المكان الذى تدور فيه الأحداث بالتفصيل، ثم يُقدِّم الشخصيات التي سترد في الرواية، وبالرغم من كثرتهم إلا أنَّهم لم يدع لكَ مجالًا للتوهان في التفاصيل أكثر.

الرواية تعتمد بشكل أساسي أيضًا على القرية والريف كأغلب الأعمال الروائية لـ"الحكواتي" فما بين سيدة "ريفية فقيرة" يعرض رحلتها لطحن القمح والحصول على الدقيق ثم رغيف العيش، وبين صانع الأحذية الذي ينكشف من خلال الفصل الثالث أنَّه كان ذو أهمية كبيرة في ذلك العصر الذي تناوله "شلبي".

 

 

"فرعان من الصبار" رواية تعتبر وصف لطقوس العزاء في الريف المصري قديمًا؛ بل ذهب البعض إلى وصفها بأنها تجربة روحية صوفية، فللموت طقوسه وخصوصيته الشديدة في القرية، والتي كان أهم ما يميزها هي مشاركة جميع أهل القرية في العزاء.

فـ"الحكواتي" يحكى ويسجل بأسلوبه التفاصيل الإنسانية فيما يدور من لحظة إعلان وفاة أحدهم وحتى إكرامه بالدفن، وما أن تنتهى حتى يتخللها أحاديث السمر داخل البيوت وخارجها، وتنفّض جلساتهم وتنعقد وتمر الأيام ويظل الإنسان يكرر أفعاله وأخطاءه.

 

 

 

إسطاسية  ربما يمكن اعتبار هذه الرواية خارجة عن مألوف روايات "الحكواتي" إلى حد ما؛ ولكنها تتفق في الجوهر والغرض، فأحداث الرواية تدور في القرن الواحد والعشرين، ويمكن اعتبارها في الفترة من عصر الملكية إلى وفاة السادات.

وتتفق هذه الرواية مع روايات "شلبي" الأخرى من خلال ضربها لأعماق التاريخ، الذي يدور حول الطبقات المهمشة، فهي تدور في إحدى قرى كفر الشِّيخ، وتتناول الكثير من العوامل السلبية التي سادت هذا الوقت، وجذور الفساد التي ضربت في عمق التكوين المصري.

وإسطاسية هي أرملة المقدس جرجس غطاس، التي تعيش في إحدى القرى النائية بكفر الشيخ، والتي قُتل ولدها محفوظ الحلاق فاشتعلت نارها وأصبحت تخرج كل يوم مع الفجر تصرخ وتناديه، وتستمر أحداثها لتثير القارئ من خلال ثقافة "الأخذ بالثأر"، ويرى البعض أنَّ الرواية أيضًا تدور حول "الفتنة الطائفية" التي اشتعلت وزادت بعد الملكية خصيصًا.

 

 

سارق الفرح

لا تختلف كثيرًا المجموعات القصصية لـ"الحكواتي" عن رواياته؛ فهناك انطباق كبير بين أشخاص الرواية وأشخاص القصص القصيرة، فلم يستطع "شلبي" أن يخلع ثوب الفقراء من عليه ليتحدث عن "الحب والرومانسية" في وقتٍ يعج فيه الواقع بمشاكل مريرة.

وعلى الرغم من قدرته على الحكي، والثرثرة في الروايات؛ فهو أيضًا يستطيع ذلك مع القصص القصيرة إلا أنَّه حكيٌ مُكثّف، وذلك لأن القصة القصيرة أقرب إلى التكثيف منها إلى السرد الطويل، إلا أنَّها- أحيانًا- يغرق "الحكواتي" في السرد.

ومن مجموعات "شلبي" القصصية صاحب السعادة اللص، المنحنى الخطر، سارق الفرح، أسباب للكيّ بالنار، الدساس، أشياء تخصُّنا، قداس الشيخ رضوان، وغيرها.

 "الحكواتي" حصل على عدد من الجوائز، أهمّها جائزة الدولة التشجيعية، وجائزة أفضل رواية عربية عن رواية وكالة عطية، والجائزة الأولى لاتحاد الكتاب للتفوق، وجائزة نجيب محفوظ من الجامعة الأمريكية بالقاهرة عن رواية وكالة عطية، كما حصل على جائزة أفضل كتاب عربي من معرض القاهرة للكتاب عن رواية صهاريج اللؤلؤ، وجائزة الدولة التقديرية في الآداب.

 

تم نسخ الرابط