العنف المُقدّس
كتب - مصطفى سيف
المُقدّس هو ما اتفق على تقديسه البشر، فكُل تابع لديانة يرى أنّ ديانته هي الأصل وهي الأجدر بالاتباع؛ لكن يبقى احترام الآخر وعقيدته هما السبيل الوحيد للتعايش السلمي وإن اختلفنا معه كُليًّا أو جزئيًّا.
ذهنية التكفير (الأصولية الإسلامية والعنف المُقدّس) الصادر عن مكتبة الأسرة في عام 2015، يبحث في هذه المسألة، وهو يُعّد دراسة قدّمها الدكتور حسن حماد، رئيس قسم الفلسفة بجامعة الزقازيق، يبحث من خلالها في فلسفة الأصولية الإسلامية وعُنفّها المُقدّس لدى الجماعات الإرهابية المتطرفة.
بعض الفلاسفة رأوا أنَّ الفكر الديني لدى العقلية البدائية نشأ نتيجة الخوف من المجهول ومن القوى غير المنظورة وغير المفهومة في الطبيعة؛ ومع تزايد نبرة العقاب الإلهي أصبح الناس على اقتناع تام أنَّ تخليهم عن الله سلّط عليهم المِحن الاجتماعية والطبيعية ليكون في ذلك عِظة وعِبرة لهم.
تحريم الفن
المُقدّس هو ما تجلى عبر نصوص ووصايا بدت للإنسان كأنها أتت من خارج إطار الزمان والمكان وكان لا بد من الحفاظ عليها من خلال الممارسة التي تصونها من الضياع وصارت طقوسًا وشعائرًا.
يقول الكاتب: "المُقدَّس والمُدنس كان الخلط بينهما موجودًا في الديانات فكانت المحظورات التي تقي من النجاسة هي نفسها التي تحمي القداسة؛ فالإنسان لم يصل إلى الفصل بين المُقدّس والمُدنّس إلا مع ظهور الأديان بشكلها المؤسسي ولذلك أصبح الدين كما يقول (هوبرت) هو إدارة حقيقية لما هو مُقدّس".
وذهب الكاتب إلى أنَّ المصري القديم استطاع أن ينقل فكرة التقديس للأشخاص من خلال اعتبار الملك تجسيدًا للإله على الأرض، وهو ما نقله إلى الحضارة الغربية عند اليونانيين والرومانيين بل وصل الأمر إلى اكتساب الملك صفة الإلوهية.
ولكن ما الذي جعل المُقدّس مُقدسًا؟
يعتبر "حماد" أنَّ استمرار الاعتقاد بقِدم الكلام الإلهي لدى معظم فترات التاريخ الإسلامي- باستثناء فترة الفكر المعتزلي- منحه هالة من القداسة التي تمنح كل من يتحدث به أو ينطقه نوعًا من الحصانة.
الإرهاب المُقدّس هو توظيف الدين لخدمة الأغراض السياسية والدنيوية والحياتية للبشر، وهي أبشع ما يمكن أن يسيطر به إنسان على إنسان آخر، والجماعات الإرهابية المتطرفة تستمد مرجيعتها من التراث الإسلامي؛ فالعنف الديني في مصر وغيرها من الدول العربية لم يعد مجرد ظاهرة، وإنما التطرف الثقافي الديني أفرز عقلية متطرفة أيضًا.
يقول الكاتب: "إن تفشي مناخ التطرف في مصر منذ السبعينيات وحتى الآن يُعّد مقدمة منطقية وضرورية لنشر الإرهاب فالإرهاب بصورته الدينية لا ينمو إلا في ثقافة تحرم الفن وتمنع الحرية والتفكير والاجتهاد والإبداع".
في خندق واحد
عوامل التطرف وفقًا للمؤلف هي ذاتية وموضوعية؛ وجزم الكاتب على صعوبة الفصل بينهما، وأورد 4 عوامل ذاتية للتطرف؛ يجيء في مقدمتها الأزمة الاقتصادية والخواء السياسي؛ معتبرًا أن الانفتاح الساداتي أجبر المواطن البسيط على العزوف عن ممارسة حقوقه السياسية فكان الدين هو طوق النجاةِ له.
أمَّا العامل الثاني فكان هيمنة الخطاب الأبوي وغياب الحرية؛ ومن الممكن ربط العامل الثالث بالرابع؛ فمن خلال تردي السياسة التعليمية وتفّشي الجهل والخرافة، أوقعنا في مزيد من مشاعر اليأس والخوف والتطلع لمجئ المخلص.
يقول الكاتب: "كُلّما ضاقت الأرض اتسعت السماء، وكلّما فشلت الحلول الإنسانية الأرضية للأزمات اليومية، فتّش الناس عن حلول سحرية وغيبية ووهمية" متخذًا جماعة الإخوان المسلمين مثالًا من خلال اللغة البسيطة التي اعتمدتها في مخاطبة المواطن البسيط وشعارها الرنان وهو "الإسلام هو الحل".
أمَّا عن العوامل الموضوعية للتطرف فهي التي ترتبط بالعالم الخارجي؛ يأتي في مقدمتها سقوط الشيوعية، خاصة أنَّ التيارات الأصولية اعتبرت في سقوطها سقوطًا للكُفر، وانتشرت كافة التيارات العنصرية القديمة وامتزجت بالأصوليات الإبراهيمية .
ونجحت هذه الأصوليات في أن تخلق حالة من الهيولية (فالهيولي هو من لا صورة له ولا صفة)- عن عمدٍ أو دون عمد- ساهمت بشكل أو بآخر في تفتيت القوميات القديمة والشكل التقليدي للدولة.
ويذهب الكاتب إلى أنَّ فقدان السيطرة هو الذي أدى لهذا المشهد العبثي الذي أصبح فيه الجلاد والضحية في خندق واحدٍ أمام مصير واحدٍ يتهدد الجميع؛ ولكن يبدو أنّ الإنسانية لا تملك أي حيلة أمام هذا الخطر الذي يبدو أشد خطورة من الحرب الباردة نفسها.
الأرض الخصبة والأيديولوجيا
اعتبر الكاتب أنَّ المقدس والدنيوي بينهما علاقة تناقضية، ولكن- برأيي- أنَّ العلاقة بينهما هي علاقة تكاملية فإن كانت تناقض في المعنى فهي علاقة تكاملية في الممارسة فالعقل الأصولي لا يتحرك في الدنيوي إلا في إطار المُقدّس.
الأيديولوجيا بالنسبة للعقل الأصولي هي تلك الرؤية الشاملة والحقيقة المطلقة التي تحدد رؤيته للعالم؛ وذكّر الكاتب بمثالين على ذلك حسن البنا (مؤسس جماعة الإخوان المسلمين)، وأبو الأعلا المودودي (مؤسس الجماعة الإسلامية).
الاثنان اتفقا على أنَّ أسباب تراجع الإسلام والمسلمين هو الابتعاد عن صحيح الدين والاعتماد على الغرب، وأنَّ العودة لصحيح الدين هي السبيل الوحيد للتقدم والرقي، وأنَّ الجهاد يمثل اختيار بين الله وبين الشيطان، أو بين الخير والشر.
روجيه جاردوي في كتابه "الأصوليات المعاصرة" قال إنَّ المكونات الرئيسية للأصولية تكمن في: التعصب، رفض التكيُّف، عدم التسامح، الانغلاق، التحجر المذهبي، تقديس التراث، العودة إلى الماضي، وغالبًا ما يستمد الأصوليون تعاليمهم من نصوص مقدسة وترتبط بحياة وتعاليم شخصية معينة.
د. نصر حامد أبو زيد في كتابه "مفهوم النص.. دراسة في علوم القرآن" يقول بحسب ما نقل عنه الكاتب: "الأصوليون الإسلاميون يستمدون شرعية برنامجهم الأيديولوجي من قداسة النص ، وفزاعته، مع الوضع في الاعتبار أنَّ إلوهية مصدر النص لا تنفي واقعية محتواه، ولا تنفي انتماءه إلى ثقافة البشر".
تكمن أزمة الأصوليات الثلاثة في فكرة احتكار الحقيقة، فكل هذه الأصوليات تتفق على فكرة واحدة هي فكرة "الحاكمية لله" كما يرى "حماد"، مؤكدًا على أنَّ أول من احتكموا لله كانت فرقة الخوارج حين نطقوا بـ"لا حكم إلا لله"، وهو ما ردّ عليه علي بن أبي طالب بـ"كلمة حق يُراد بها باطل".
يقول حماد: "على أية حال فإن الأصوليات الإسلامية هي إحدى تجليّات المد اليميني المتطرف الذي يجتاح العالم نتيجة سقوط الشيوعية وتفكك الاتحاد السوفييتي وأزمة الرأسمالية العالمية وغزو أمريكا للعراق، كل هذه العوامل أدت لانفلات الأصوليات من عقالها القديم وانتعاشها وتحوّلها من مجرد ظاهرة إلى بنية منتجة للتطرف والعنف والإرهاب".
سيكولوجية المتطرف
1. التعصب
برأيي أنّ هذا هو الجزء الأهم في الدراسة المُقدّمة حيث يتقصى فيه المؤلف في الأسباب النفسية والتحليل النفسي للعقل الأصولي الذي يذهب إلى التطرف طواعية، ويتركز على تحليل الإرهاب المُقدّس الذي يؤمن أصحابه بأنَّ رسالتهم مُقدّسة وسامية.
واستبعد "حماد" فكرة التعامل مع الإرهابي على أنَّه مريض عقلي بالمعنى القطعي التعسفي مقتبسًا ما قاله د. خليل فضل : "إن مجرد إطلاق صفة المرض العقلي أو الاضطراب النفسي على الإرهابيين تُعّد محاولة غير علمية، كأننا نقول إن العيب ليس فينا؛ فالمجتمع عادل ومتكامل وليست هناك أخطاء.
التعصب الشديد من أبعاد التحليل السيكولوجي للإنسان المتطرف والذي تتسم شخصيته بالتسلطية والجمود والتصلب إلا أنَّ هذا التعصب يغذيه ويدعمه المكون المعرفي لذلك دائمًا ما يرى المتعصب غيره شاذًا وخارج عن المألوف.
.jpg)
2. النزعة التدميرية
النزعة التدميرية لدى الشخصية الإرهابية تعتمد على "آلية التكفير" وتتلخص في أنّ ضحية الإرهاب يجب أن يكون كافرًا فقط؛ وذكر الكاتب ابن تيمية، إحدى أهم المرجعيات الأصولية الإسلامية الذي أفتى بـ"من تمنطق فقد تزندق".
الخطاب الأصولي المتطرف يُوحِّد منذ زمنٍ بعيد بين التكفير والتفكير والإبداع والبدعة على الرغم من الفارق الشاسع بينهما؛ فيقول الكاتب: "منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى الآن نجد العديد من الفتاوى ضد المفكرين والمثقفين لأنهم ببساطة اقترفوا خطيئة التفكير".
ويذهب تيري إيجلتون إلى أنَّ هذه الجماعات تسعى لتفريغ العالم من مضمونه وقيمته الجوهرية من أجل تعزيز قيمة المُقدّس.
الملفت للنظر في هذا الفصل هو هذه المقارنة بين عالمي الاجتماع سيجموند فرويد، وإريك فروم في نظرتهما للنزعة التدميرية للشخص المتطرف أو الإرهابي.
فرويد يربط ارتباطًا مباشرًا بين دوافع الحياة ودوافع الموت والذي يرى أنَّ هناك صراعًا وتداخلًا بينهما وتتنازعًا بينهما داخل الإنسان فيقول: "بجانب الغريزة التي تحافظ على جوهر الحياة وتربطها بصورة دائمة بوحدات أوسع، هناك غريزة مناقضة لها تسعى إلى حل تلك الوحدات وإرجاعها إلى البدائية".
أمَّا إريك فروم فقدَّم في كتابه "قلب الإنسان" تصورًا أكثر تنوعًا وشمولًا من غريزتي الحياة والموت، فهو يرى أنَّ غريزة الحياة هي الإمكانية الأولّية في الإنسان، وغريزة الموت هي الإمكانية الثانوية.
ويذهب إلى أنَّ هناك اتجاهين داخل النفس الإنسانية: اتجاه يناقض كل ما هو حي وينجذب نحو الموت ويميل إلى القتل وهو ما أسماه بـ"النيكروفيلي"، والاتجاه الثاني هو اتجاه يمجد كل ما هو حي ويقاوم الموت ويؤكد على أسبقية الحياة وهو ما أسماه بـ"البيوفيلي".
ويقول إيجلتون أيضًا بحسب ما نقل عنه الكاتب: "إنَّ المفجّر الانتحاري هو أقرب ما يكون إلى الإنسان العدمي؛ إنه يؤمن كأصولي بأن لا شيء يمتلك معنى أو قيمة إلا إذا تأسس على مبادئ أولية صلبة، والعدمي يؤمن أيضًا أنّه ليس هناك قيمة لأي شيء أيًا كانت المبادئ التي يقوم عليها".
3. النرجسية
النرجسية إحدى جوانب التحليل النفسي للشخصية الإرهابية؛ والنرجسية واضحة في الديانات الإبراهيمية : "اليهود يزعمون أنَّهم شعب الله المختار"، المسيحيون يعتقدون أنَّهم وحدهم المختصون بالخلاص وعناية الرب، أمَّا المسلمون فيعتقدون أنَّ "الدين عند الله الإسلام".
يقول الكاتب: "النرجسيون دائمًا ما يحتاجون إلى زعيم يمتلك نرجسية أعلى منهم، فنرجسية الزعيم هي التي تجتذب نرجسية الذين يخضعون لسلطانه خاصة لو كانوا من الفئات الضعيفة والمحرومة والمتخلفة اقتصاديًا وثقافيًا وتتوق لانتزاع إعجاب العالم بها".
.jpg)
4. السادية والمازوخية
ربط الكاتب بين السادية والمازوخية وعلاقتهما بالتطرف، وتطرق في ذلك إلى كتابات هيجل ونيتشه وفرويد، مؤكدًا على أنَّ "على الرغم من الاختلاف الاصطلاحي بين السادية والمازوخية إلا أنَّهما واجهتان مختلفتان لموقف أساسي هو "الإحساس بالعقم الحيوي".
يقول الكاتب: "في الفعل الإرهابي تتداخل المشاعر السادية مع المشاعر المازوخية؛ فكلًا من السادية والمازوخية ينبعان من مصدر واحد هو غريزة الموت والرغبة في التدمير ولذلك فمن السهل أن تتحول السادية إلى مازوخية والعكس صحيح".



