الأحد 21 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

رمضان زين الزمان ( 7 ).. مساجد مصر في ليالي رمضان

رمضان زين الزمان
رمضان زين الزمان ( 7 ).. مساجد مصر في ليالي رمضان
كتبت - د. عزة بدر

كتابات الدارسين والمهتمين ترصد من العمائر والمساجد ما يكفي لتسجيل الأحداث اليومية في مصر، خلال أربعة عشر قرنا التي مرت عليها، منذ الفتح الإسلامي لمصر، فقد سجلت فنون العمارة الإسلامية صورًا صادقة عن تاريخ الدول المتعاقبة وسير للحكام، والتي ارتبطت ارتباطا وثيقا بعمارة المساجد.

 

"إمام المساجد"

مصر غنية بالمساجد والجوامع الأثرية الشهيرة، التي تتمثل فيها أجمل فنون العمارة الإسلامية، حيث اقترن الجمال المعماري بحسن أداء الوظيفة، بدليل أن معظم مساجد مصر الأثرية مفتوحة لأداء الشعائر الدينية منذ أقدم العصور وحتى الآن، فمسجد عمرو بن العاص هو أقدم جوامع مصر، فيرجع تاريخه إلى عام 22 هـ بناه عمرو بن العاص بعد فتح مصر مباشرة، وهو أول جامع يبني في شمال إفريقيا وفي مصر، فعندما أسس عمرو بن العاص حاضرة جديدة لمصر سنة 21 هـ في المكان الفسيح الذي يقع إلى الشمال من حصن بابليون.

 وأسماها الفسطاط، يحدها من الشرق جبل المقطم فكان درعها الواقية ضد العدو وضد فيضان النيل، وكان اختياره لهذا الموقع يضمن إطراد اتساعها من الجهة الشمالية الشرقية، التي بنيت بها مدينة العسكر والقطائع والقاهرة فيما بعد، وقد بني عمرو جامعه في وسط مدينة الفسطاط "مصر القديمة"، وهو من أكبر جوامع القاهرة، ووصفه ابن دقماق في كتابه "الانتصار لواسطة عقد الأمصار" بقوله: "إنه إمام المساجد ومطلع الأنوار اللوامع، طوبي لمن حافظ على الصلوات فيه وواظب على القيام بنواحيه"، وقد اتسع الجامع حتى بلغ مساحته الحالية في العصر الأموي، سمي بجامع الفتح تيمنا بفتح مصر، وسمي بجامع أهل الراية الأعظم وجامع مصر وتاج الجوامع والجامع العتيق وجامع النصر، ويعد هذا الجامع المسجد الرابع في الإسلام بعد مساجد المدينة المنورة والبصرة والكوفة.

ولهذا الجامع أيضًا منزلة خاصة في نفوس المصريين، فقد أشرف على بنائه أربعة من صحابة رسول الله عليه الله عليه وسلم هم أبوذر الغفاري، ونبيه بن صواب وأبوبصيرة والزبيدي، ويقال إنه قد وقف على إقامة القبلة بالجامع ثمانون رجلا من الصحابة فيهم الزبير بن العوام وعبادة بن الصامت وعقبة بن عامر، ومن المميزات المعمارية في جامع عمرو بن العاص أنه يحتوي على بناء يعلوه قبة وهو بيت المال الذي يتوسط صحن الجامع حتى الآن، وقد أنشئ في خلافة سليمان بن عبدالملك سنة 97هـ، كما كان منبر الجامع هو المنبر الوحيد في مساجد مصر، إلى أن أمر عبدالملك بن موسي الذي تولى إمارة مصر قبل آخر خلفاء الدولة الأموية، فأمر باتخاذ المنابر في مساجد القرى وكان ذلك عام 132ه.

وقد زادت مساحة المسجد وتم تجديده في العصور المختلفة، في العصر العباسي وفي عهد الدولة الطولونية وفي العصر الإخشيدي، حتى إذا ما جاء منتصف القرن الرابع الهجري، كان المسجد أعمر موضع بمصر كما وصفه الرحالة عبدالله المقدسي في كتابه "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم"، وبرغم أن الجامع الأزهر هو مسجد الدولة الرسمي في عصر الدولة الفاطمية، إلا أن جامع عمرو حظي بالكثير من العناير والرعاية من خلفاء الفواطم، خاصة في عهد الخليفة العزيز بالله ثاني خلفاء الدولة الفاطمية، وفي عهد الحاكم بأمر الله، كما كان بالمسجد المحاريب المتنقلة التي اقتصر ظهورها في المساجد على عصر الدولة الفاطمية، ويوجد ثلاثة منها في متحف الفن الإسلامي، فقد كان للإمام في زمن الصيف مقصورة خشب ومحراب من خشب الساج الهندي المنقوش به عمودان من خشب الصندل، وتقلع المقصورة في الشتاء إذا ما صلى الإمام في المقصورة الكبيرة، وكذلك اهتم بإصلاح المسجد وتجديده صلاح الدين الأيوبي، وتوالت يد الإصلاح والتجديد طوال العصر المملوكي، وقد بقي من ملامح التجديد المعمارية في كل عصر، ما يدل عليه من زخارف نباتية وشبابيك جصية لاتزال موجودة حتى الآن ويعد كتاب د. سعاد ماهر في وصف جامع عمرو، وغيره من مساجد القاهرة من أوفى الكتب في وصف هذه المساجد، وخاصة في وصف جامع عمرو في كتابها: "مساجد مصر وأولياؤها الصالحون"، لقد كان جامع عمرو جامعة تعقد فيها حلقات الدرس على كبار العلماء والفقهاء، كما كان يجلس فيه القضاة لفض المنازعات المدنية، وكان متولي خراج مصر يجلس في هذا الجامع، ويتم فيه تسجيل الخراج والصدقات ولهذا المسجد طقوس في رمضان تميزت في الزمن القديم، فقد اختص دون غيره من مساجد مصر بأنه الجامع الوحيد الذي كان الخلفاء والسلاطين والولاة والأمراء يصلون فيه الجمعة اليتيمة "آخر جمعة في رمضان» وقد نشأ هذا التقليد منذ عهد الدولة الفاطمية، فقد كان الخليفة الفاطمي يذهب للاحتفال برؤيا شهر رمضان ثم يستريح أول جمعة منه، فإذا كانت الجمعة الثانية أداها في الجامع الحاكم، فإذا كانت الجمعة الثالثة أداها في الجامع الأزهر، فإذا كانت الجمعة الرابعة أداها في جامع عمرو، وقد ظل هذا التقليد عادة حتى عام 1952م، أما الآن فيتميز الاحتفال في رمضان في مسجد عمرو بنقل صلاة الفجر عبر الأثير أو عبر التليفزيون، حيث يتميز هذا المسجد بنجومه من الوعاظ والقراء من ذوي الصوت الحسن، وأشهرهم الشيخ محمد جبريل الذي كان يسعد زوار المسجد حينذاك بصوته العميق المؤثر، حيث يمتلئ الجامع طوال شهر رمضان بجموع المصلين من رواد الجامع في ليلة ختم القرآن.

 

فتمتلئ الطرقات والشوارع بل والحارات المحيطة بالجامع من ساحة ميدان المسجد جنوبا حتى طريق صلاح سالم ونفق الملك الصالح شمالا وغربا حتى سور مترو الأنفاق، حيث يصل دعاء ختم القرآن إلى حوالي ساعة، يأخذ فيها الشيخ بمجامع القلوب فيبكي معه الناس وهو يردد من عمق قلب خاشع "الحمد لله الذي أنعم وهدي، الحمد لله غفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدي، الحمد لله لا مانع لما أعطي ولا معطي لما منع ولا راد لما قضي، أكرم من سئل وخير من أعطي، الحمد لله على ما قضي وكل الذي قضاه فيه الرضا"، الحمد لله الذي جاء في كتابه الكريم "لا تحزن إن الله معنا " كما كانت هناك كوكبة من العلماء تتوافد على المسجد ، وكانوا من نجومه أيضا ومنهم د. طه أبوجريشة ود. عبدالحكيم الصعيدي والشيخ محمد عبدالكريم.

 

وإمام مسجد عمرو، كان وقتها الشيخ صابر همام ، وكان مقيم الشعائر الشيخ حسن محمود ، وقد وصف لي حينذاك اعتكاف الناس في العشر الأواخر من رمضان، إذ يأتون من جميع محافظات مصر للاعتكاف بالجامع، وكذلك كانت من الشخصيات المشهورة لأهل مصر القديمة من النساء الشيخة سميرة عمار، التي كانت تحاضر الناس من الظهر للعصر في رمضان،  لقد خلد هذا الجامع ذكر عمرو بن العاص القائد المسلم الذي كانت له اليد الطولى في امتداد رقعة البلاد الإسلامية، فقد عينه الرسول صلي الله عليه وسلم واليا على عمان، وجاء أبوبكر الصديق فعينه واليا على الشام، وفي عهد عمر بن الخطاب ولي فلسطين، وكان من أهم إنجازاته كقائد إسلامي فتح مصر الذي تم له عام 20هـ

الجدير بالذكر أن الجامع الطولوني الذي بني عام 265 هـ - 879م من أقدم وأكبر مساجد مصر، إذ يعد ثالث المساجد الجامعة التي شيدت بمصر الإسلامية بعد جامع عمرو بن العاص، أما المسجد الثاني فهو جامع "العسكر"، الذي شيد في العصر العباسي عام 169هـ / 785 م في ثانية عواصم مصر الإسلامية «مدينة العسكر»، ولكنه أصبح أثرا بعد عين ولم تعد له أية آثار تذكر كما يقول الآثاريون.

 

 

 

"الجامع الأزهر"

هنا في حنايا الأزهر ولدت الحركة الوطنية المصرية في أزهي صورها، هنا تتحدث المآذن تهلل وتكبر.. هنا شهدت المنابر خطب زعماء دينيين خطبوا في الأمة، وأججوا فيها شعلة الحماسة، فمن المواقف الخالدة للأزهر في العصر الحديث، ذلك الدور الذي قام به إبان الحملة الفرنسية فقد تزعم رجاله الحركة الوطنية وحركة المقاومة الشعبية، والتي أزكت روح الثورة التي أدت في النهاية إلى رحيل الحملة الفرنسية عن الأراضي المصرية، وهنا تأججت ثورة 1919م، وخرجت المظاهرات من الأزهر تهدد المستعمر وتطالب باستقلال مصر، ويسبق كل هذا الدور المهم الذي قام به الجامع الأزهر إبان العصور السابقة منذ إنشائه على يد جوهر الصقلي عام 361هـ - 972م فقد أدى الجامع دورًا كبيرًا في الحياة الثقافية والدينية والسياسية في مصر على مر العصور، فإذا كان جامع عمرو بن العاص هو أول جامع أسس بالفسطاط، فالجامع الأزهر هو أول جامع أسس بالقاهرة وقد أنشئ ليكون مسجدا رسميا للدولة الفاطمية ومنبرا لدعوتها الدينية ورمزًا لسيادتها الروحية، وقد اكتسب الأزهر صفته العلمية منذ أوائل العصر الفاطمي، وإلى جانب تلك المكانة العلمية البارزة، كانت له فوق ذلك أهمية رسمية خاصة ففيه كان جلوس قاضي القضاة في أيام معينة وفيه كان مركز المحتسب العام، وفيه كان يعقد كثير من المجالس القضائية، ومنذ القرن الثامن الهجري أصبح للأزهر في مصر والعالم الإسلامي نوع من الزعامة الفكرية والثقافية، وخاصة في ظل دولة المماليك، وكان نفوذ الأزهر وقتها يصل إلى حد التأثير في سياسة الدولة العليا، واحيانًا في مصائر العرش والسلطان، ولكن مع انهيار دولة المماليك أمام الفتح العثماني اضطربت أحوال المعاهد العلمية وأصاب الأزهر ما أصابه من الذبول والركود، ورغم أن الفاتح التركي تبرك بالصلاة فيه، وكان للأزهر مكانة خاصة في نفوس الغزاة بماضيه التليد وهيبته، إلا أنه أصابه ما أصاب الحركة الفكرية كلها من تدهور، فاختفت كثير من العلوم التي كانت زاهرة به من قبل، إلا أن الأزهر قام هذه الفترة وخلال ثلاثة قرون حتى انقضاء العهد التركي، قام بمهمة جليلة هي الحفاظ على اللغة العربية، إذ كانت مصرفي ذلك الوقت ملاذا لطلاب العلوم الإسلامية واللغة العربية من سائر أنحاء العالمين العربي والإسلامي.

وأول ما يقابل الداخل إلى الجامع الأزهر من الناحية المواجهة لميدان الأزهر بابان متجاوران يعرفان ببابي المزينين أنشأهما الأمير عبدالرحمن كتخدا عام 1176هـ - 1752م، والمسجد نفسه يتكون من صحن مكشوف مستطيل الشكل، تحيط به الأروقة من ثلاثة جهات خمسة منها في الرواق الشرقي وثلاثة في كل من الرواقين القبلي والبحري وتعلو واجهة الجامع الأزهر مئذنة عالية تكاد تكون فريدة بين مآذن مصر كما يقول الآثاريون، لأن بدنها العلوي مكون من ستة عشر ضلعا، بينما أضلاع باقي المآذن لا تتجاوز الثمانية، أما منارة الأزهر فقد بناها السلطان الغوري آخر سلاطين دولة المماليك الجراكسة سنة 920هـ - 1514م.                                     

هنا في الأزهر تحدث جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده، حيث التف حولهما نوابغ الطلاب والشيوخ الأزهريون في حلقات دراسية وعلمية، كانت حدثًا فكريًا سريًا في الحركة الفكرية الإسلامية، وظهرت ثماره الأولى في تطوير الأزهر نفسه، فبعد أن كانت الدراسة فيه مقصورة على العلوم الدينية، أضيفت إليها علوم أخرى حتى تتمشى مع ركب الحضارة، ويرجع الفضل في ذلك إلى الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية، وكان ذلك بموجب قانون صدر عام 1314هـ - 6 189م، وفي عام 1908 صدر قانون آخر نقل إلى الأزهر جميع المواد، التي كانت تدرس في مراحل الدراسة عدا اللغات، حتى أدخلها الشيخ محمود شلتوت عام 1960م، وتوالت قوانين الإصلاح في الأزهر حتى تحول الأزهر إلى جامعة عريقة لا تعني فقط بالعلوم الدينية، وإنما بالجمع بين علوم الدنيا والدين فصار فيه ما نعرفه الآن ما نعرفه من كليات الطب والزراعة والهندسة وغيره.

في أروقة الأزهر التي لا تزال باقية حتى الآن "29 رواقًا و14 حارة"، يتردد عليها المشتاقون إلى العلم، وأولئك الذين جلسوا إلى شيوخهم يتلقون العلوم في مثابرة وإصرار، هنا رواق الأكراد ورواق الهنود ورواق البغداديين ورواق الأتراك ورواق المغاربة ورواق الشوام، هنا أقبل طلاب العلم من كل حدب وصوب، وأشهر أروقة الأزهر رواق الصعايدة، ويتكون من إيوان متسع بوسطه عمود من الرخام وبه مكتبة كبيرة، وقد امتلأت هذه الأروقة جميعًا بحجرات لسكن الطلبة المغتربين ودواليب يحفظون بها أشياءهم.

وقد زرت الجامع الأزهر وقت أن كان الشيخ عيد عبد الحميد يوسف إماما للجامع ، وكنت قد سألته عن ليالي الأزهر في رمضان فقال كلها علم وعبادة إذ يتضاعف النشاط في شهر رمضان، كما يتضاعف عدد الزوار فتنشط حلقات العلم والدروس من الصباح إلى المساء، فهناك دروس في الفقه والحديث والتوحيد وتفسير القرآن الكريم، إضافة إلى لجنة فتوى ترد على أسئلة جمهور العامة، كما يوجد بالجامع أيضا معهد للدراسات الحرة "خاص بالعلوم الدينية" يدرس فيه بالمجان كل من يبتغي التعلم دون التقيد بسن، استؤنف العمل به بعد أن كان قد توقف بعد زلزال عام 1992 نظرًا لأعمال الترميم وتواصل نشاطه في رمضان، بالإضافة إلى وجود كُتاب لتحفيظ القرآن الكريم كان يقوم فيه بهذه المهمة الجليلة الشيخ عبدالله عطية بيومي، أما عن العلماء الذين كانوا يقومون بمحاضرة الناس حينذاك، فمنهم د. محيي الدين الصافي، ود. محمد نجم وبعض العلماء الذين تختارهم بعناية إدارة الوعظ بالأزهر، أما فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر، فقد كان يقوم بشرح آيات القرآن الكريم في حلقات متتابعة في كل يوم جمعة من ليالي رمضان، ولقد فتح الأزهر للصلاة في شهر رمضان سنة 361هـ - 972م، ومنذ ذلك الحين والأزهر يؤدي في حياة مصر والقاهرة دورًا حاسمًا فهو ترمومتر الحياة الفكرية في مصر، فإذا ازدهر تنامت تيارات الفكر والثقافة والسياسة وإن خبا دوره، جمدت حركة الفكر وبقيت مناشط الحياة العقلية والفكرية في حاجة إلى التجدد، والتطور.

 

 

تم نسخ الرابط