حسام المسعدي يكتب: سردية السيرة في رواية إمام المرج
"أن يكتب المرء يعني أن يشرح العالم"
رولان بارت
رواية "إمام المرج"، هي رواية للكاتب والصحفي "تامر صلاح الدين"، وهي رواية صادرة عن دار روافد للنشر، وتحتوي على 577 صفحة. يبدو أن هذه الرواية هي لحظة أمل في مستقبل أفضل، وهي أيضًا صرخة فلسفية وفكرية عميقة لامست مختلف الجوانب والأبعاد التي ترتبط بالسياسي والاجتماعي والثقافي عبر منظومة سردية وحكائية جمع فيها الكاتب بين الماضي والحاضر وبين الواقعي والمتخيل، مما أعطى للرواية تركيبة مختلفة البناء والتصميم من حيث الشكل والمضمون.
أعتقد أن هذه الرواية تطرح في عمقها عدة قضايا من بينها إعطاء العمل والمثابرة والجد قيمة إيتيقية أخرى، فهي تلج إلى دواخل الإنسان العميقة وتترحل داخل ثنايا الطاقات التي يمكن أن تسكن جسدا ما. يمنحنا إذن التنقل والترحل داخل فضاء الرواية وجسدها بصيرة أخرى تجعلنا بالضرورة نطرح عدة أسئلة تتعلق أساسا بالأسباب التي جعلتنا نعيش في هذه "الديستوبيا" القاتلة والغامضة، وما الذي يجعل منا شعوبًا لا تعترف بغير القتل والدم؟ هل ولدنا بهذا الشكل؟ من نحن؟ من أنا؟ كيف يمكن كتابة سيرة لشخص ما؟ وكيف يمكن قراءة عمل روائي ما؟ من أي زاوية ومن أي منطلق يمكن تتبع التفاصيل والتحقيق فيها؟ أي بنية شكلت نص الرواية؟ هل نحن أمام نص روائي كلاسيكي أم داخل نص منفلت البناء والإنشاء؟
إذا ما اقتفينا أثر الشخصيات الرئيسية في هذه الرواية، فإننا نعثر على مجموعة من الحكايات المتشعبة والأحداث المتواترة، التي جمعت بين طرفين أساسيين في لقاء صحفي جمعهما: شخصية "إمام النيلي"، وهي الشخصية المحورية التي يدور حولها الحدث والسرد والخيال، وهي نقطة البداية والنهاية فمنها تنطلق الأحداث وإليها تعود، وشخصية الصحفي "نضال"، الذي يبدو أنه دليل طريق السرد والمتحكم في إيقاعه ونبضه والحادي، الذي يحدو ويقود القارئ نحو متعة القراءة فهو من يقبض على مجريات الأحداث، وهو الذي يسربها في تدفق حكائي متواتر تارة يعلو فيه التشويق وطورًا آخر ينخفض، وبالتالي فنحن إزاء طرق سردية ملتوية البناء.
تأتي إلينا شخصية "إمام النيلي"، وفيها ما فيها من الدلالات على مستوى الاسم والمضمون: يبدو أن اختيار الشخصية بهذا الاسم يحمل في طياته الكثير من المعاني، فالإمام اسم مركب يحيلنا إلى صفة الجمود والثبات والتعاليم الجاهزة والحكم المسبق، أما النيل فهو النهر المتدفق والجارف والغزير والنهر هنا يمنح صفاته لإمام ليحرك فيه ما يجعله هائجا، محبا، قائدا وحكيما. بهذا الشكل فالرواية هي عبارة عن رحلة بحث ومغامرة ومخاض عاشه نضال بكل تفاصيله بحثا عن كل ما هو سحري وشعري ومثير في شخصية إمام النيلي، وهذا البحث في باطنه هو لحظة يكشف فيها الراوي عن نفسه لا بنفسه وإنما عبر شخصية "نضال" مبينا من خلالها لنا مواقفه السياسية والأيديولوجية وذلك عبر كتابة سيرة شخصية "إمام النيلي"، فالكاتب هنا هو ناقل للحدث وباقي الشخصيات هي شاهدة عليه وحاضرة فيه ومساهمة في إنشاءه بشكل ما، فالأحداث واللقاءات التي جمعت أطراف الحكاية جاءت بشكل جدلي حيث أن كل معطى جديد في الرواية يؤدي بالضرورة إلى نوع من التطوير الداخلي لها في مستوى القص والسرد والتخريف، فهذه الرواية عبارة عن تمرين جيد في فن السرد فكل شخصية جديدة تدخل في قالب الرواية إلا وتعطي شكلا مغايرا لشخصية "إمام النيلي"، فعملية الكشف عن تركيبتها النفسية والاجتماعية جاء عبر شخصيات أخرى، فهذه الشخصية متلاشية ولكنها مبثوثة في باقي الشخصيات، وهو ما يحلينا إلى أن هناك عملية كتابة جماعية لهذه الشخصية وبالتالي فالجماعة مساهمة في بناء الفرد والكل مساهم في بناء الجزء.
يحمل "نضال" الكاميرا وكامل المعدات التي يتطلبها العمل الصحفي، ويتوجه إلى بيت "إمام النيلي"، ومن هذه اللحظة تنطلق الأحداث في البروز وتبدأ الشخصية في الكشف عن نفسها وعن أهدافها كما ينطلق السرد في تعرية التفاصيل والغوص فيها، يحلينا هذا المنطلق إلى أن الرواية هي بمثابة "الروبورتاج الصحفي"، وهي عملية توثيقية همها الأساسي تتبع شخصية "إمام النيلي" وذلك عبر طرح الأسئلة التي يمكن أن تعبد الطريق أمام الكشف عنها، فهذا العمل الروائي هو قصة واقعية وحقيقة تشكلت في جغرافيا مصر وتضاريسها وسهولها وهضابها فجسد "إمام النيلي" مزروع في الأرض ورائحته تفوح في الهواء، ولكن الرواية كانت متجاوزة للواقع وللأحداث الحقيقة حيث مزج الراوي في الكتابة بين ما هو واقعي وما هو خيالي ليزيد من صلابة النص عبر تقنية أساسية وهي "التناص"، حيث يقحم الراوي نصوصا أخرى في جسد الرواية ويقدم لنا شخصيات وأحداثا من التاريخ (ثورة 1952، ثورة 2011، حكم جمال عبد الناصر، أنور السادات...)، ويبني لنا لقاءات متخيلة (نضال، نابليون بونابرت، إمام النيلي) لا يمكن أن توجد في الواقع وبالتالي فالرواية هي إجابة على أسئلة الراهن انطلاقا من عملية تذكر واسترجاع لكل ما هو ماض وقديم، فالراوي يطرق أبواب الذاكرة ليقول لنا أنه من قرية المرج وأنه عاش في بلاد لها تاريخ ولها حاضر ومستقبل.
يتجاوز البحث الذي قامت به شخصية "نضال" شكل العمل الصحفي ليصبح مادة حكائية تحاكي لنا تاريخ مصر وواقعها ولتكون بمثابة الرحلة الوجودية التي يبحث فيها الإنسان عن نفسه، فالبحث عن شخصية "إمام النيلي" في نهاية التحليل هو مغامرة يقوم بها الراوي بحثا عن نفسه وبالتالي فكلنا مدعوون لطرح الأسئلة عن أنفسنا وخوض هذه التجربة التي تتطلب مخاضا كبيرا، فرحلة "نضال" البحثية أشبه برحلة العامل في مجال الحفريات: الأول يحفر في النفس البشرية وطياتها الدفينة والعميقة أما الثاني فهو ينبش في الأرض ويزيح الطية عن الأخرى حتى يصل إلى كنه الأرض وعمقها. في الرواية يلتقي "نضال" بشخصيته يبحث في تفاصيلها الدقيقة، يسئله كل الأسئلة الممكنة، وكل إجابة يقدمها "إمام النيلي" إلا وتزيد من رغبة "نضال" في معرفة أشياء أخرى، فالنفس تحمل في كيانها جملة كبيرة من الطبقات وكل طبقة نزيحها عن أختها إلا ونجد أنفسنا محكمين بالضرورة بمعرفة الطبقة الموالية، على هذا الأساس يبدو أنه من الصعب الإمساك بكل التفاصيل التي تسكن شخصا ما، فهناك ما لا يمكن لنا معرفته ولا الخوض فيه وهو ما أعطى للرواية صفة الرحلة والمغامرة.
يبدو أن هذا المنجز الروائي بوصفه تعبيرة فنية وأدبية قد أدرك ما هو شعري وسحري في شخصية "إمام النيلي"، هذه الشخصية المسكونة بالمحبة والعشق والجمال فبلغت أعلاها وفهمت أن الحب هو محرك الوجود، على هذا الأساس فإن هذه الرواية قد تجاوزت نفسها كمعطى روائي يحاكي شيئا ما، ويبني أحداثا متداخلة، ويقدم شخصيات منفلتة البناء، لتصبح مبحثا أنثروبولوجيا وسوسيولوجيا في الوقت ذاته، وبالتالي فالرواية لا تتقدم نحونا بوصفها جملة من الأحداث المكتوبة بشكل متناسق فقط، وإنما تتجاوز ذلك لتكون بمثابة كتاب مفتوح يبحث في كل ما له علاقة بالهوية والجذور وهو ما يدفعنا لطرح سؤال من نكون؟ من نحن؟ وهذه الأسئلة والإحالات تدفعنا مباشرة إلى القول بأن الشعر والجميل والجليل مبثوث في الوجود ولا يمكن لنا حصره والإمساك به إلا عبر التدقيق في الجزئيات والتفاصيل فلكل منا حكاياته وتجربته ولكل منا أيضا شعره الخاص.
تحاكي الرواية في ظاهرها شخصية بعينها وفي باطنها تحاكي وطنا وشعبا سقط في العديد من الاختبارات والتجارب أي أنها خطاب متجاوز للفرديات ومتشيع للجموع وبالتالي فهي تقدم لنا إمكانية إجابة جديدة وواضحة عن كيفية وصول مصر والأمة العربية بشكل عام إلى هذا المستوى المتدني وعن كيف وجدت الشعوب أنفسها في قاع بئر الكارثة والهاوية؟ فهل نحن شعوب ميتة بطبعها أم أننا أحياء ولنا ما نقول وما نفعل؟!
حسام المسعدي
باحث دكتوراه في العلوم الثقافية
جامعة تونس



