عند أي حال سيستقر لبنان.. ألحَّ عليَّ السؤال والليل ليلتها كان مرهوب الجانب، أزيز الرصاص ينشر الرعب، ودوي القنابل يوزع رسائل الموت قبل انفجارها، والقصف عشوائي يُخضِّب الشوارع بالدم.
وليلتها بدت لي جراح لبنان لا تُؤْسى، والزلزال العاتي خلخل مداميكه، هزَهُ أرضاً وشعباً ومؤسسات.
بعد ست وأربعين سنة على الحرب، الأزمة اللبنانية مستمرة لفصولاً جديدة، في الأرض والنفوس وفي العلاقة بين اللبنانيين ومحيطهم، بل في نظرة الإنسان اللبناني إلى ذاته.
فالحرب التي عشت مرارة ومضاء وعنف وخوف السنتين الأولين منها، خُتمت سنة 1990 على زغلٍ، ولم تتم "مصالحة وطنية" حقيقية، وبفعل فاعل وتدبُرٍ وتدبيرٍ، له ما له، وفيه ما فيه من سوء وغايات سود.
تسلم "أمراء الحرب" الحكم والتنافر بينهم انتقل من الشارع إلى الحكومة والبرلمان، الذي فُصِّلَ على مَقاس من دَبَّرَ أن يتولى "أمراء الحرب" الحكم، ويتنازعون على الحصص.
بعد تلك السنوات الطويلة، وما نراه يجري في لبنان عاد السؤال يَلِحُّ عليّ من جديد: عند أي حال سيستقر لبنان، هل هو إلى قيامة أو إلى زوال؟
بين السفراء الأوروبيين لدى بيروت في بدايات الحرب اللبنانية، كان السفير البريطاني السير بول هيرفيه رايتSir Paul Hervé Wright نسيج وحده، دبلوماسي ثقيف، يُتَحامَى دهاؤهُ، مهيوب الحضور، مجرب، حكيم، متبصِّرٌ، تَحَنَّكَ في المهنة، عرّكه العمل الديبلوماسي فعاركه، وما تركه إلا متقاعداً سنة 1975، فكان لبنان آخر مطافه ومسؤولياته الدبلوماسية.
والسير رايت أحبّ لبنان ودافع عنه في الأندية الدولية، وسمعنا له قولاً حسناً فيه، ولشدة شغفه بلبنان و اللبنانيين تولى رئاسة "الجمعية اللبنانية – البريطانية" في لندن.
يوم تعرفت عليه في حفل للسفارة في فندق "ريفييرا"، القريب من مبنى سفارة جلالة الملكة، كان يحمل على أكتافه سنواته الستين، وما بان على محياه الكَبَر يومها.
ما دار من حديث بيني وبينه وشارك فيه عدد من الزملاء الصحفيين ليس ها هنا مكانه، فما أنا بصدده هو التقرير الأخير الذي وضعه السير رايت عن لبنان، قبل ثلاثة أشهر فقط من اندلاع الاحتراب الداخلي المدمر، وقبل أن يترك بيروت والعمل الدبلوماسي ويتقاعد، ليحل مكانه السير بيتر وايكفيلد في نهاية 1975.
والتقرير – الوثيقة المفرج عنه سنة 2005، أي بعد مرور ثلاثين سنة، وهو الزمن الذي يباح فيه نشر الوثائق من خزانة الخارجية البريطانية Foreign and Commonwealth Office التي يرمز لها FO، يُصّوِر بدقة المناخ السياسي الذي عشناه في لبنان، في السنة السابقة للانفجار.
وُيلمِح السير رايت إلى ما كنا لمسناه أيضاً، بأن الحرب بدأت سنة 1969 لا في سنة 1975، وهي بدأت في الجنوب اللبناني بين المنظمات الفلسطينية المتعددة وبين الجيش اللبناني، ولما أُرغم الجيش على التراجع والانكفاء، وأُرغمت الدولة على التنازل عن سلطتها وسيادتها واستقلالها، كان الانفجار الكبير.
و السير رايت الذي كان على ود وصداقة مع الرئيس سليمان فرنجية كشف عن جانب مهم في شخصية الرئيس "العنيد" الذي تسبب في تأزم الوضع السياسي الداخلي، وتشكُل تكتل معارض قوي ضده، إضافة إلى تفاقم الوضع الاقتصادي، الذي كان هو الآخر من وقود الانفجار.
التاريخ: الأول من يناير (كانون الثاني) عام 1975
من: بي. إتش. رايت - بيروت
إلى: وزير الخارجية/ سري للغاية
الموضوع: لبنان 1974
لم يكن 1974 عاماً مُرضياً للبنان، صحيح أنهم على الصعيد الخارجي أبقوا على علاقاتهم مع جيرانهم العرب، بل حسّنوها، وقطفوا بعض الشهرة من رئاستهم لدورة الجامعة العربية، ولكن الجبهة الداخلية شهدت تدهوراً متتالياً على صعيد أداء السياسة الداخلية وظروف الأمن الداخلي، وربما (وهذا عامل مسكوت عنه) على صعيد الموقف المالي الداخلي للبلاد، ولأنه تم تجنب انهيار كبير في أي من تلك المجالات، فذلك مما يشير مرة أخرى للقدرات اللبنانية، والتي تصل تقريباً إلى حد الذكاء في تأخير قرارات سيئة، وفي إيجاد مساومات الدقيقة الأخيرة.
أما العلاقات اللبنانية - البريطانية، وبعيداً عن الهزات الخطيرة التي تعرضت لها في مايو (أيار) و يونيو (حزيران)، فقد شهدت التجارة ازدياداً مرة أخرى في الاتجاهين، فيما حدثت زيارات مفيدة عديدة، ولا بد من القول هنا إنها كانت من بريطانيا إلى هنا.
الوجود الفلسطيني
واصل الوجود الفلسطيني استحواذه على الشأنين الداخلي والخارجي، فيما يتحمل مسؤولية الاعتداءات الإسرائيلية الموجهة إلى الأهداف الفلسطينية في لبنان، خاصة في الجنوب.
والقصف الإسرائيلي للجنوب كان حالة يومية منذ أغسطس (آب)، واستمر إلى لحظة إعداد هذا التقرير، فيما سادت قناعة لبنانية بأن القوات الإسرائيلية ستحتل الجنوب يوماً، ومع ذلك ظلت العلاقة بين منظمة التحرير الفلسطينية واللبنانيين متقاربة، وأكثر ثقة خلال السنة، ويعود السبب بقدر كبير حسب اعتقادي، إلى الزيادة في مكانة المنظمة التي نتجت عن الاعتراف العالمي بها في الأمم المتحدة وجهات أخرى.. إلى ذلك كان هناك المزيد من التعاون بين الطرفين تجاه تحجيم الصدامات بين المنظمة والعناصر الفلسطينية المتطرفة، وكذلك بين الفلسطينيين واليمين اللبناني المسيحي، ومع ذلك فالعلاقة لاتزال هشة وسيعيدها للتوتر، وربما إلى الانفجار أي تحول أو انقلاب عسكري أو سياسي في القضية العربية، فنشهدها تقترب من المخاطرة بسيناريو مواجهة على خطوط ما حدث في مايو 1973.
و الأكثر من ذلك، أن العلاقة لم تمنع الفلسطينيين من ممارسة أعلى درجة من الاستقلالية في حماية مواقعهم العسكرية والسياسية في المخيمات وغيرها. والمخيمات نفسها مليئة بالأسلحة بما فيها المدفعية وصواريخ سام، فنجد دوريات فلسطينية في أزمنة التوتر، تسارع إلى حجز والقيام بعمليات التحري مع الأشخاص الذين تشتبه فيهم.. وإلى ذلك عانى كثير من الأجانب، وبينهم بعض البريطانيين من هذه التصرفات خلال السنة.
وفي ضوء هذا، بقي الهدف الكلي للسياسة الخارجية البريطانية تسوية المسألة الفلسطينية.
لقد أصبح اللبنانيون أكثر تمرساً، أو قُل تحضيراً في توجهاتهم مع الهجمات الإسرائيلية داخل أراضيهم، ويُحسب لهم توقفهم عن المطالبة بجلسات لمجلس الأمن لمواجهة الهجمات الإسرائيلية الجوية على معسكرات اللاجئين (يقصد المخيمات)، أو حتى ضواحي بيروت.
وحينما تحدث معي وزير الخارجية اللبنانى، ذهب بعيداً إلى حد الاعتراف لي بصورة خاصة، بأنه رأى ضرورة إسرائيلية للإبقاء على النشاط العسكري على الحدود لأسباب داخلية، إذا لم يكن لديها غيرها، منتهياً إلى الطلب من الحكومة البريطانية بأن تقترح على الإسرائيليين أن يكونوا منضبطين ومعتدلين ما أمكن.. ومع ذلك، ومهما بقيت مسألة كون السياسة الإسرائيلية الانتقامية يمكن أن تشكل رادعاً للنشاط الفدائي الفلسطيني قضية مفتوحة للنقاش، فإنها جعلت مهمة "عرفات" في توحيد كل قطاعات الرأي الفلسطيني خلف ما يسمى سياسته المعتدلة أمراً صعباً، فيما أسهمت بقدر كبير في مناخ التوتر الذي تعودنا عليه، وعلى معايشته في بيروت.
الرئيس فرنجية في الأمم المتحدة
زار الرئيس سليمان فرنجية في نوفمبر (تشرين الثاني) نيويورك للتحدث في القضية العربية، خلال مناقشة الأمم المتحدة عن الفلسطينيين، وتناولت معه العشاء عشية مغادرته، فقال لي إنه أنذر عرفات ألا يفرط في الإعجاب بنفسه، بل وإلى حد تقديم النصح له بحلاقة ذقنه، والتخلص من نظارته السوداء، وأن يتحدث بالإنجليزية.
حديث فرنجية في نيويورك كان محاولة لإشاعة الاعتدال، وقد عاد وهو عميق الإحباط، لأن الحديث لم يترك أثرا، كما أن كثيراً من سوء الفهم لاحق زيارته بشأن استقبال الحكومة الأمريكية له، والتي انتهجت سبيل تهدئة العلاقات بين البلدين، وهي التي كانت قد أعيدت لتوها.
حديث الرئيس فرنجية في الأمم المتحدة أسهم في استعادة مكانته المتأرجحة داخليا، فيما ظل العامل الجدير بالملاحظة في السياسة الداخلية هو تزايد النقد العلني له، والشعور المنتشر (وليس بلا مبرر) بأنه أصبح عنيداً ومعزولاً، ويعود فشل صائب سلام في تشكيل حكومة جديدة بعد استقالة تقي الدين الصلح في 25 سبتمبر (أيلول) إلى إصرار سليمان فرنجية بإدخال أشخاص في الحكومة غير مقبولين لصائب سلام.
السوفييت يعملون خفية
خلال سنة 1974، استكان السوفييت، وفضّلوا الجلوس في المقاعد الخلفية - فيما عدا رسالة دعم من ليونيد بريجنيف ردا على نداء الرئيس فرنجية للقوى الكبرى في يوليو (تموز)، وفيما عدا عرض بسلاح متقدم في يوليو أيضاً، والذي شدّ الانتباه مؤقتاً - لم يظهر الروس في المشهد اللبناني، ومع ذلك فليس هناك دليل على القول إنهم فقدوا أرضا هنا، فقناعتي تقول إنهم يعملون بالخفية، ويحفرون بهدوء، مُبقين على خطوطهم مفتوحة، وخاصة مع الفلسطينيين.. وربما يشير تعيين سولداتوف سفيراً بلبنان إلى ذلك.
- التوقيع: بي. اتش. رايت
أرسلت نسخة من هذا التقرير لممثلي جلالة الملكة في دمشق، جدة، باريس، القاهرة، تل أبيب، عمّان، واشنطن، وبعثتي نيويورك وبروكسل.
لطالما تساءلت أين الصواب والخطأ فيما كان وصار ووقع، ثم ماذا صنع اللبنانيون بأيديهم من أفعال، وماذا دبرت المؤامرة لهم ولبلادهم؟
على الرغم من مرور ست وأربعين سنة على الزلزال اللبناني العاتي، فإن حكم التاريخ لم يحن بعد، ذلك أن التاريخ يتأنى في أحكامه، ويتريث، مراقباً، متفحصاً، مدققاً في كل ما يكتب ويقال، حتى في تقارير السفراء، وأحدهم السير رايت.
وفي رأيي أنا الذي عايشت الحرب وملابساتها، أنه لو شاء أحدهم في المستقبل أن يفتش عن الوقائع والحقائق فيما كُتب وقيل عن الأزمة اللبنانية، لما وجد حقيقة واحدة، وإن وُفِّقَ فلن يجد إلا القليل مما ينشده ويتمناه.



