«جهود المؤرخين المسيحيين بمصر الإسلامية».. دراسة تاريخية بهيئة الكتاب
«جهود المؤرخين المسيحيين في مصر الإسلامية من القرن الأول إلى القرن السابع الهجري»، دراسة صدرت ضمن إصدارات سلسلة "تاريخ المصريين" 367، عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، برئاسة الدكتور هيثم الحاج علي، وهو كتاب ضمن رسالة ماجستير للدكتور محمد عبد الخالق عبد المولى، الباحث بقسم التاريخ الاسلامى والحضارة الإسلامية بكلية دار العلوم- جامعة القاهرة.
ينقسم الكتاب إلى ثمانية فصول وخاتمة، يعالج الفصل الأول المنابع الأولى لمدرسة مصر التاريخية المسيحية، ويدور الفصل الثاني حول المؤرخ المسيحي يوحنا النقيوسي.
وفي الفصل الثالث ترجمة لحياة المؤرخ سعيد بن بطريق وتعريف بأهم مؤلفاته، ويأتي الفصل الرابع بعنوان مؤرخو بطاركة الكنيسة المصرية.
ويدور الفصل الخامس حول ابن مماتي من حيث نسبه وأسرته وسماته الشخصية وتعريف بكتابه قوانين الدواوين.
أما الفصل السادس فيضم أبو المكارم بن جرجس وكتابه تاريخ الكنائس والأديرة، فيما يترجم الفصل السابع لحياة أبو شاكر بن الراهب وتاريخه العام، والفصل الثامن بعنوان "المكين جرجس بن العميد وكتابه تاريخ المسلمين".
ويلخص الدكتور محمد عبد الخالق عبد المولى، فى مقدمة كتابة أهم الدوافع التي دفعته إلى أن يكتب فى هذا الجانب أن المدرسة التاريخية المسيحية في مصر "إن صح التعبير" أهملها الباحثون, فلم تسلط على علمائها الأضواء, ولم ينظر إلى منجزاتهم بعين الاعتبار, ومن هنا كان لابد من إضاءة جنبات هذه المدرسة ونفض الغبار عن أعلامها وإظهار منجزاتها بكل موضوعية وأمانة دون تكليف أو مبالغة.
وأشار إلى إن للمجتمع القبطي دائماً شأناً يذكر في تاريخ مصر الإسلامية وكانت للكنيسة القبطية دائماً علائقها الرسمية مع الحكومات الإسلامية. ومع ذلك فإن الرواية الإسلامية لم تفسح مجالاً كبيراً لبحث هذه العلائق وتمحيصها, ولم تعن بالأخص بأن تشرح لنا وجهة النظر الكنسية في مختلف العصور شرحاً وافياً, ولم تفطن دائماً إلى الاستفادة من المصادر النصرانية في تفهم أحوال المجتمع النصراني وزعامته الروحية.
واضاف ان أهمية كبيرة لدراسة المصادر النصرانية التي تعنى بعصور من تواريخ الأمة الإسلامية؛ ففي هذه المصادر نستطيع أن نفهم بوضوح موقف الكنيسة وموقف أوليائها حسبما يصوره لنا كتابها ودعاتها, ونستطيع بمراجعة أقوالهم وتعليقاتهم أن نقف على كثير من الحقائق التي لم تعن الرواية الإسلامية بشرحها واستيعابها, وخاصة في العصور التي تتجه فيها السياسة الإسلامية إلى الضغط على الكنيسة والمجتمع النصراني لظروف وعوامل خاصة.
كما حدث بمصر في عصر المأمون, وفي عصر الحاكم بأمر الله, وأيام الحروب الصليبية, فهنا تبدو الرواية الكنسية متنفساً حقيقياً للتعبير عما يخالج الكنيسة ورعاياها من العواطف والآراء نحو المجتمع الإسلامي, وقد تُحْمَل الرواية الكنسية في هذه المواقف على المبالغة والإغراق في أحيان كثيرة, ولكنها تحتفظ مع ذلك بأهميتها وقيمتها في إيضاح كثير من النقط أو المواقف التي تغضي عنها الرواية الإسلامية أو ترى فيها آراء أخرى.
وقال: إنه لا تقف أهمية الروايات الكنسية عند ذلك الحد؛ وفي بعض الأحيان, وفي عصور السكينة والسلام, تغدو الروايات الكنسية مصدراً قيماً لاستعراض الحوادث التي تعنى بها, ويبدو الكاتب مؤرخاً لا غبار عليه, ويتبسط في شرح الحوادث والشؤون العامة وكثير من الأخبار الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وهي نواحٍ لها بلا ريب قيمتها وأهميتها في تاريخنا الإسلامي.
وأوضح الدكتور محمد عبدالخالق، إن المصادر التاريخية المسيحية وإن كانت تميل معظم الأحيان إلى أن تخص أخبار الكنيسة والمجتمع النصراني بأعظم قسط من عنايتها, فإنها تُعُّد دائماً مصدر عظيم القيمة لتواريخ العصور التي عنيت بها. وتمتاز هذه المصادر بميزة خاصة, هي أنها تعنى عناية فائقة بتاريخ الدولة البيزنطية, وتفيض في تتبع أخبارها وعلائقها بالأمم الإسلامية إفاضة دقيقة ممتعة, وهذه ناحية لم تخصها الرواية الإسلامية دائماً بما يجب من عناية, بل تعتمد غالباً في تناولها على هذه الروايات النصرانية, مثال ذلك: أن ابن خلدون يعتمد على ابن العميد في معظم ما كتبه عن أخبار الدولة الرومانية والدولة الشرقية "البيزنطية".
ويرجع السر في ذلك إلى أن أغلب الكتاب النصارى كانوا يعرفون السريانية واليونانية واللاتينية أحياناً؛ ومن ثم كان اتصالهم بالمراجع الأجنبية وثيقاً وانتفاعهم بها واضحاً.
وقال إن لهؤلاء المؤرخين إسهامات كثيرة في مجالات الحياة العلمية والثقافية في مصر الإسلامية في هذه الفترة, حيث تميز هؤلاء المؤرخون المسيحيون بسعة العلم وغزارة المعرفة إلى جانب توخيهم الدقة في ذكر الكثير من الأخبار والحوادث معتمدين في كثير من الروايات على المشاهدة العيانية لبعض الأحداث أو السماع من الرواة المعاصرين للأحداث أو على ما تضمه الأديرة من السير والتراجم التي كثيراً ما تتضمن إشارات إلى أخبار مصر وما يجري فيها من الأحداث.
كما إن في دراسة التراث العربي المسيحي, وخاصة التاريخي منه, ما يجعلنا نقف على دور المسيحيين في بناء الحضارة العربية (ولاسيما في أهم مراحلها أي في العصر العباسي). فالحضارة العربية ليست حضارة إسلامية خالصة رغم أن الطابع الإسلامي غالب عليها, ومن هنا يمكن القول أن الحضارة العربية انفتحت على حضارات مختلفة وتأثرت بها وتفاعلت معها, وعلى رأسها الحضارة المسيحية, وهذا ما يرفع من شأن الحضارة العربية, بخلاف ما حدث بالحضارة الأوربية التي انحصرت على حضارة دينية واحدة. وهذا ما جعل المسيحيين يعتزون بعروبتهم, ويفتخرون بتراثهم العربي؛ فقد اكتشفوا أنهم أسهموا فيه, فلا ينظرون إلى الغرب وكأنه الفردوس المنشود, بل ينظرون إلى شرقهم العربي.
فكل مجتمع بشري ناهض يقوم على مُقِّومين: التأصيل والتفتح. فالتأصيل يضمن استمرارية هذا المجتمع,ويحافظ عليه خالصاً من الانحراف والضياع الذاتي. والتفتح يضمن له التجدد المستمر والصلة بالعالم الخارجي. والمجتمع الناهض هو الذي يحافظ على التوازن بين هاتين النزعتين, دون أن يضحي بواحدة منهما, وهو ما حدث في العصر العباسي الأول. فقد قام المسيحيون في هذا العصر بدور التفتح على الحضارات الأخرى (اليونانية والسريانية).
هكذا نرى أن الروايات الكنسية والنصرانية العربية بوجه عام, فضلاً عن قيمتها وأهميتها الخاصة في سرد أخبار الكنيسة والمجتمع النصراني, وشرح مواقفهما في مختلف العصور والمناسبات, تلقي ضوءاً على كثير من نواحي الصلة والعلائق بين الشرق والغرب والنصرانية والإسلام, فهي من هذا الجانب جديرة بالدرس والمراجعة.



