كثيرة هي القضايا التي كثر حولها النقاش والجدال الطويل على طول مراحل الفكر الكلامي الإسلامية.
فنجد هناك جدلية وجود الله تعالى وصفاته، أيضا جدلية الإمامة هل بالتعيين أم بالاختيار، أيضا الإرادة الإنسانية، والنبوة والقضاء والقدر، وغيرها من المسائل آلتي أثارت جدلا.
لكننا في هذا المقال سنتحدث عن رؤية الله.. هل نرى ربنا يوم القيامة؟! أردت أن أتحدث عن هذا الموضوع الذي طالما أرجأت الحديث عنه لأنه من الموضوعات الحساسة والشائكة ليس هذا وحسب بل والحيوية في الفكر الإسلامي والتي طالما كثر حولها القيل والقال والتي أدلى فيها كل بدلوه سواء الفرق الكلامية المعتزلة والخوارج قبلها والأشاعرة وفرقة الماتريدية وكذلك أهل السنة والجماعة والسلف الصالح وخلفهم بل وكثير من فلاسفة الإسلام.
أردت أن أتحدث إليكم عن هذا الموضوع لعل الله يتعطف علينا ويجود وهو الجواد الكريم فينظر إلينا نظرة حب وعطف وحنان فلا نشقى بعدها أبدا، نظرة تحيا بها قلوبنا وتتفتح خلالها عقولنا ونرى بقلوبنا وبصائرنا الحق ونتبعه ونري الباطل فنجتنبه.
ما أعظم وأروع وأجمل أن ينظر إليك الله، اللهم متعنا بنعمة وسعادة النظر إلى وجهك الكريم. ولكن لا بد أن نهيئ أنفسنا أولا لهذا الأمر الجلل وهذه السعادة العارمة، نعد أنفسنا للقاء ليس بعده لقاء، لقاء يأتي بعده بقاء مع إنية الحق، نتطهر، نصفو، نتحرر من كل متعلقات المادة وشواغل الحس، تتصافح قلوبنا وتتعانق أرواحنا من أجل المعانقة الحقيقية معانقة الاستغراق في مشاهدة الحق ساعتها تهدأ السرائر ويسعد الفؤاد باللقاء فهنيئا باللقاء. أحبابي أيدكم الله بروح منه ورزقكم الهناء السرمدي، الرؤية (رؤية الله يوم القيامة) لا تتحقق إلا بشرطين عقلا. الرائي والمرئي، فأنا أراك وأنت تراني إذا التقينا فاستحالة الوقوع إلا بهما. فضلا عن الرؤية القلبية، فقلوب العارفين لها عيون، ترى ما لا يراه الناظرونا.
وليس مجالنا الحديث عنها الآن. أقصد الرؤية القلبية. هل نرى ربنا يوم القيامة؟! يقول تعالى (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) ،أيضا (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) وعز من قال (قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن أنظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني، فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا).
وأيضا قوله تعالى (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون).
ثم أنظر إلى أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، عندما سأله الصحابة رضي الله عنهم، هل نرى ربنا يوم القيامة يا رسول الله، أجابهم النبي هل تتزاحمون وأنتم ترون الشمس في وضح النهار، هل تضآمون وأنتم ترون البدر بدرا ليلة اكتماله قالوا لا يا رسول الله، قال فإنكم ترونه. وكذلك الحديث القدسي (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر).
فما الذي لا يخطر علي قلب البشر -رؤية الله -مع ترك الكيفية له تعالى. فالرؤية واقعة وثابتة نصا قرآنا وسنة.
أما الذين شككوا في وقوعها وأنها لن تتحقق فحجتهم نفي الجسمية عنه وإثباتا للتنزيه الإلهي فنجد المعتزلة تذهب إلى التأويل في قوله تعالى إلى ربها ناظرة أي منتظرة لأمر الله تعالى إن يدخلهم الجنة أو النار.
ونحن نختلف معهم في ذلك، لأن من فضل الله وجوده على عباده الذين سهروا وتعبوا وباتوا سجدا لله وقياما أن يتعطف عليهم ربهم بكرمه وهو الذي يقول للملائكة أنظروا إلى حال عبادي ماذا يطلبون يقولون لا يريدون شيئا آخر فيقول الله للملائكة اكشفوا عني الحجاب ليراني عبادي بالكيفية التي يقرها الله.
وهذا مصداقا لقوله تعالى: (لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد). كل شيء في الجنة ثم المزيد رؤية الله تعالى.. فالحسنى الجنة والزيادة الرؤية.
وهذا باتفاق مذهب أهل السنة والجماعة والسلف الصالح، وكذلك الخلف واتفاق الأشاعرة التي نفت الرؤية الحسية في الدنيا ونحن نتفق لأن ذلك يخل بالناموس الإلهي ويخل بالتنزيه، لأن الرؤية لا تقع حسا إلا للمحدثات الفانيات المخلوقات.
فأنا أراك وأنت تراني لأننا خلق من خلقه تعالى، ونختلف معهم من وجه آخر إذ يرون أن الرؤية في الآخرة رؤية معنوية إذ نرى ما الذي في ذلك، أن نستمتع بجمال المشاهدة حتى تقول سبحان ربي العلي الأعلى الوهاب القادر القدير المقتدر.
والشاهد على ذلك حديث آدم رأيت ربي في أحسن صورة أي أبدلني ربي صورة خلاف صورتي وشكل خلاف شكلي حتى أليق بالمشاهدة، وما ذلك على الله بعزيز. فاللهم متعنا بسعادة قصوى سعادة النظر إلى وجهك الكريم.
ثم لو كانت الرؤية ممتنعة ما كان طلبها موسى عليه السلام، ولما أجابه الله تعالى بقوله لن تراني ولكن أنظر إلى الجبل وما كان الله لينظر إلى الجبل ثم لعلم الله تعالى أن موسى لن يتحمل هذه الرؤية في الدنيا فمجرد أن رأى الجبل دك خر صعقا، ولولا كنف المحبة الربانية لموسى ما كان سلم من هذه الصاعقة - هذا في الدنيا، أما في الآخرة فالحال خلاف الحال والمكان هناك خلاف المكان هنا، والمقام مختلف فهناك، حيث لا هناك، هناك مقام تنعيم وتكريم، وذلك فضل وتفضل منه تعالى، فهل أعددنا لهذا المقام هل أعددنا لأن يبدل الله أمثالنا، هل أعددنا لمقعد صدق عند مليك مقتدر، هل تاجرنا مع الله حق التجارة تجارة لن تبور هل أعددنا أنفسنا للروح والريحان وجنة نعيم. اعقلوها أيها العاقلون، لمثل هذا فليعمل العاملون، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بآداب حلوان



