أمير ظاظا: "شعرت أن صوت هند يلاحقني فقررت أن أحوّل صراخها إلى فـيلم
من بين عشرات القصص التي روت مأساة الشعب الفلسطيني خلال العدوان الإسرائيلي، تبقى قصة الطفلة الفلسطينية هند رجب من أكثر القصص التي كشفت عجز العالم أمام الطفولة التي أُغتيلت، والأرواح البريئة التي أُزهقت في وضح النهار بلا ذنب. الطفلة التي استنجدت عبر مكالمات هاتفية مسجَّلة بطواقم الهلال الأحمر قبل أن ينقطع صوتها ويُعلن استشهادها بعد اثني عشر يومًا من البحث عنها، تحوّلت إلى رمز للبراءة المغدورة. ومن هنا، انطلق المخرج أمير ظاظا بفيلمه القصير «أغمضي عينيك يا هند»، المشارك في الدورة الثامنة من مهرجان الجونة السينمائي، ليحوّل المأساة إلى شهادة بصرية تحفظ صوت الطفلة ووجهها في الذاكرة.
في هذا الحوار، يتحدث ظاظا عن الدوافع التي قادته لإنجاز الفيلم، والصعوبات التي واجهها خلال التصوير، ورؤيته لمعنى أن يُعبّر الفن عن الألم دون أن يستغله.
متى قررت أن توثّق مأساة هند رجب في فيلم؟
عندما أُعلن عن فقدان الطفلة، كنت أتابع تفاصيل الحكاية عبر وسائل الإعلام مثل الجميع، متأثرًا ومنتظرًا ما سيؤول إليه مصيرها، خاصة أن الأخبار كانت متباينة في البداية. قيل إنها خُطفت من داخل السيارة على يد قوات الاحتلال، وقيل إنها قُصفت مثل بقية أسرتها الذين كانوا معها، ولم يكن هناك أي تواصل معها طوال اثني عشر يومًا، حتى تأكد نبأ استشهادها. تلك اللحظة تركت أثرًا عميقًا في نفسي، وبعد أسبوعين من استشهادها شعرت وكأن صوتها يلاحقني، وكأن هناك نداء داخلي يدفعني لأن أفعل شيئًا. عندها جاء القرار سريعًا بأن أحوّل القصة إلى فيلم، وبدأت في اتخاذ خطوات فعلية لإنجازه، واستغرقت العملية نحو عامٍ ونصف.
من المؤكد أنك أثناء التحضير للعمل علمت أن المخرجة التونسية كوثر بن هنية تحضّر لفيلم روائي طويل عن القصة نفسها بإنتاج ضخم، فهل شعرت بإحباط حينها؟
كنت قد بدأت مشروعي قبلها بعدة أشهر، وبالطبع انتابتني لحظات من الإحباط عندما علمت الخبر، خاصة مع المعاناة الإنتاجية التي واجهتها حتى يرى فيلمي النور، فضلًا عن أنها مخرجة معروفة حاصلة على جوائز، بينما أنا ما زلت في بداية الطريق. هذا هو فيلمي الاحترافي الأول بعد تخرجي من أكاديمية أمستردام للسينما، وقد سبق أن وصل مشروعي للتخرج إلى المنافسة النهائية في جوائز الأوسكار لفئة أفلام الطلبة. لكنني سرعان ما أدركت أن القصة بطبيعتها تحتمل أكثر من معالجة، لأنها إنسانية بالدرجة الأولى. فضّلت أن أرويها من المنظور الأصعب، من داخل السيارة التي قُصفت، بينما اختارت كوثر بن هنية أن تسردها من منظور الهلال الأحمر.
جميع الأبطال المشاركين في الفيلم ممثلون غير محترفين، فهل شكل ذلك تحديًا بالنسبة لك؟
بالفعل، جميع المشاركين في الفيلم كانوا متطوعين من العرب والسوريين المقيمين في هولندا كان عليّ تدريبهم على الأداء وضبط اللهجة الفلسطينية بمساعدة أصدقاء، لكن التحدي الأكبر كان في توجيه الطفلة التي أدّت دور هند، لكن القدر كان رحيمًا، فوالدتها أخصائية تربية وكانت تتابع معنا كل التفاصيل، وتحرص على مراقبة أي أثر نفسي قد يتركه الدور في ابنتها، أما الطفلة فكانت ناضجة بشكلٍ لافت، وتمتلك وعيًا أكبر من عمرها. أتذكر أول حوار دار بيننا حين كنت أشرح لها خلفية الشخصية، فقالت لي ببراءة:
"أشعر بالحزن على هند، لكنني أعلم أنها الآن في مكان جميل، وأمي أخبرتني أن الأطفال عصافير في الجنة."
هذه الجملة أثّرت فيَّ بشدة، فأضفتها إلى السيناريو كما هي.
وكيف تم التواصل مع أسرة هند أثناء التحضير للفيلم؟
حدث ذلك مصادفة عبر وسائل التواصل الاجتماعي. حاولت في البداية التواصل من خلال أصدقاء، لكن الأمر كان صعبًا لأن الأسرة كانت لا تزال في حالة حزن شديد، فنصحوني بالتريث. لاحقًا، عبر تطبيق «إنستجرام»، تمكنت من التواصل مع والدتها السيدة وسام وخالها إيهاب حمادة. كنت قد تخيّلت هند كطفلة ذكية وحنونة تفوق عمرها، وقد أكّد لي خالها أنها كانت كذلك بالفعل، ما طمأنني أن الصورة التي رسمتها قريبة من الحقيقة. إلى جانب حواراتي المطوّلة مع الأسرة، اعتمدت أيضًا على اللقاءات الصحفية والتقارير الميدانية والوثائقية كمصادر للمعلومات، مثل مشهد المكالمة الهاتفية الذي يمثّل صدى النداء الأخير لهند، وحصلت على نصه من الهلال الأحمر لكنني أضفت مشاهد تخدم البناء الدرامي، وعندما شاهدت الأسرة الفيلم تأثروا بشدة.
واجهتك صعوبات إنتاجية عديدة حتى قررت أن تتولى إنتاج الفيلم بنفسك، كيف كانت هذه الرحلة؟
في البداية، عرضت المشروع على شركة إنتاج تربطني بها علاقة طيبة، وقد تحمسوا له من الناحية الإنسانية، لكنهم تراجعوا لاحقًا خوفًا من حساسية الموضوع. حينها أدركت أن عليّ أن أتحمل المسؤولية كاملة. فريقي شجعني قائلين: "أقنعتنا أن نعمل متطوعين، وستقنع شركات الإنتاج بدعمك." تحمّست، وبدأت في حساب التكلفة فوجدتها تبلغ نحو خمسمائة ألف يورو، وهو رقم كبير بالطبع. تواصلت مع عشرات المنظمات الإنسانية حول العالم طالبًا الدعم، ومن بين أربعين منظمة ردّت واحدة فقط وقدّمت دعمًا رمزيًا بقيمة ألفي يورو. ومع ذلك، وفي غضون شهر، تمكّنا من جمع نحو ثمانين ألف يورو، وصوّرنا الفيلم خلال أربعة أيام فقط.
شاهدنا الجمهور يبكي داخل قاعة العرض في مهرجان الجونة، فكيف كان استقبال الفيلم في عرضه الأول في هولندا؟
العرض العالمي الأول كان في هولندا، لأنها بلد الإنتاج، وكان رد الفعل مؤثرًا للغاية الشعب الهولندي متعاطف جدًا مع القضية الفلسطينية، وقد حصل الفيلم على جائزة أفضل فيلم قصير في المهرجان الرسمي الهولندي. بدأنا بعد ذلك بتنظيم عروض في المدارس ضمن برامج توعوية، وهو ما أسعدني كثيرًا. أما العرض في مهرجان الجونة فكان مختلفًا تمامًا، فالجمهور العربي أكثر قربًا من القضية، وأكثر انفعالًا بما جرى لهند.



