الثقافة والتاريخ والأدب والفنون، كلها مصادر يغرف منها الممثل ليعيش تجربته الشخصية ويتقمصها بشكل حقيقي، ليجسد شخصياته ويؤثر في الجمهور، وبالتالي يؤثر بدوره في الثقافة عبر تجسيد تحولات المجتمع، وتقديم قضايا مهمة، فخشبة المسرح والشاشة مرآة تعكس التغيرات الاجتماعية والتاريخية. مع الأسف الكثير من فنانينا يستهينون بالثقافة العامة، ويجهلون أبسط المعلومات، حتى في صميم مجالهم، وسط تراجع حقيقي للاهتمام بالثقافة، ليس فقط بين الفنانين الصاعدين، بل تخطاه لمن هم في مرحلة تشكّل الوعي مقارنة بالأجيال السابقة.
واحد من أهمّ الفنانين المثقفين القريبين من الجمهور، ويمتلك رؤية مجتمعية وسياسية عميقة مكنته من اختيار أدواره من خلال رؤيته الخاصة فيما يعرض عليه من أعمال سواء كانت فنية أو اجتماعية أو إنسانية. الفنان يحيى الفخراني، نتاج جيل محاط بكل الكتاب والمثقفين، لم أحظ بمعرفته عن قرب، رغم أنه يسكن في ضاحية المقطم قريباً من منزلي، لكنني أتَّتَبَع خطاه في الفن بإعجاب، اِستنَشَقَ معلوماتي عنه ممن يعرفونه عن قرب.
الفخراني من أكثر الفنانين تأثيرًا في تاريخ الفن العربي المعاصر. فهو من أبرز رموز الفن في العالم العربي، حيث قدّم عبر المسرح والسينما والتليفزيون أعمالًا خالدة جمعت بين البعد الإنساني والعمق الثقافي، واستطاع أن يجسّد الشخصية المصرية في تنوعها وتناقضاتها، شخصية نادرة، يستمد من ثقافته ليجسد شخصياته، ترك الطب ليعالج الناس بالفن، طبيب يعالج روح المشاهد، لم يغضب منه أحد يوماً، وسيرته العطرة طاغية، تنبهر بتصرفاته الطبيعية التي ليس فيها مسحة تكلف أو أثر للتصنع، وكأنما يعيش الحياة مفترضًا أنه لا يراه أحد، تجسيد حقيقي للنمط الذي تعرفه السينما العالمية، يبدو فيها الفنان وكأنه لا يمثل ولكنه يعيش على طبيعته دون تظاهر أو اصطناع، وسامته الثقافية، أوقعت شاشات التليفزيون والسينما وخشبة المسرح في حبه، وأوصلته إلى ذهن وعقل ووجدان المتفرج وطغت على لغة الوسامة الجسدية والشكل الخارجي.
وعلى المستوى الشخصي خفة دمه تؤكد بساطة شخصيته، وهدوؤه يعكس ملامح قوتها، والأهم في شخصية يحيى الفخراني هو أنه مثقف رفيع الشأن أحاط بأطراف من المعارف المختلفة، وعلمته الحياة ما صقل موهبته وجعله متميزًا في العقود الثلاثة الأخيرة، كما أنه يعيش هموم وطنه ويشاركه أحلامه واكتوى بآلامه.
مدمن قراءة يمضي معظم أوقات فراغه في القراءة والاطلاع، والبحث عن آخر الإصدارات والدوريات، التي تصدر عن المكتبات العربية.
وكما قالوا لي يمتلك الفخراني مكتبة ضخمة في منزله، تضم الكثير من الكتب العلمية والأدبية والسياسية، لكنه يفضل في اختياراته القراءة لكبار الكتَّاب المصريين منهم نجيب محفوظ ويوسف إدريس وتوفيق الحكيم ويوسف السباعي وإحسان عبد القدوس وغيرهم. جمعت بينه وبين أدباء ومثقفين علاقات، منهم الأديب الراحل نجيب محفوظ، وبدايتها عمل روائي اشترى الفخراني ملكيته الفكرية، وعلاقة جمعته بالشاعر بيرم التونسي وولادة عمل فني مسرحي، أسهم التليفزيون المصري في تقديمه.
يتقن اللغة العربية الفصحى فى أعماله الفنية ، وحضوره اللغوي لافت، و تجربته في تقديم سلسلة "قصص القرآن"، وإصراره أن يرفض تسجيل أي مشهد دون وجود أستاذ متخصص في اللغة العربية للتحقق من سلامة النطق ، يؤكد احترامه واهتمامه بنشر اللغة العربية، ما انعكس بوضوح على ملامح شخصيته وأسلوبه، كما شارك في مسلسل «المرشدي عنتر»، الذي حقق نجاحًا لافتاً، بفضل قدرته المميزة على التحدث باللغة العربية الفصحى، ما أكسبه إشادات واسعة، كما قدم مسرحية «الملك لير»، وهي واحدة من أبرز العروض المسرحية التي قُدمت باللغة العربية الفصحى، وحقق العمل نجاحًا جماهيريًا كبيرًا بفضل الأداء اللغوي المتميز، وكرمز ثقافي وفني اختارته المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم "الألكسو" تقديراً لمسيرته الفنية، وإسهامه في إثراء الثقافة العربية عبر الفن، وأعماله التي تجمع بين العمق الفني والبساطة التربوية وتأثيره في الأجيال الجديدة.
وتكريماً لمسيرته الفنية وإسهاماته الثرية المتميزة في تقديم محتوى راق ومؤثر للأطفال، منح مهرجان القاهرة الدولي للطفل العربي في دورته الثالثة هذا العام تكريماً خاصاً، فمن أعماله البارزة في سياق التكريم ،" أعمال الدوبلاج لحكاية لعبة، قصص القرآن، قصص الإنسان في القرآن.. ودوره الاستثنائي في الملك لير.. وغيرها".
ومنذ عامين كرمت السفارة الفلسطينية في القاهرة الفنان يحيى الفخراني، بحسب ما أعلنه الحساب الرسمي للسفارة، حيث قلّد سفير دولة فلسطين لدى مصر دياب اللوح، الفنان المصري وسام الثقافة والعلوم والفنون "النجمة الكبرى".
وتم تقليد الفخراني وسام الثقافة والعلوم والفنون، تقديراً لإسهاماته الفنية التي أثرت الفن والثقافة العربية، وتثمينًا لدوره في دعم قضايا الأمه العربية، وفي المقدمة منها القضية الفلسطينية وثقافتها وتثبيتا لحضورها في المشهد الثقافي العربي والدولي.
عبقري فى تجسيد الشخصيات، فقد استطاع أن يجسد شخصية بلبل الشاب الذي يعاني من تأخر عقلي في فيلم "مبروك وبلبل"، وشخصية الشيخ الحكيم العادل الذي ينطق بالحكمة ويحكم بلدًا ويدير حربًا في "شيخ العرب همام"، ورجل البيزنس والدهاء "سليم البدري في ليالي الحلمية"، و"حمادة عزو" الرجل المستهتر الذي يعيش بروح طفل مدلل في "يتربى في عزو"، وغيرها عشرات الشخصيات بكل التناقضات بينها، يعيشها بكل تفاصيلها ومشاعرها وبتناقضاتها وانفعالاتها، ناهيك عن اقترابه المذهل لشخصية محمد على باشا الثرية، التي تناولت كل جوانب الشخصية ولولعه بكتب التاريخ قراء العديد من المؤلفات العربية والأجنبية، مما ساعده من الاقتراب من هذه الشخصية وتجسيدها في فيلم يحمل اسمه.
وبعيدا عن التاريخ فإن «الشوقيات» لأمير الشعراء أحمد شوقي، جذبت الفخراني بشدة، وهي التي فتحت له الطريق إلى عالم الأدب والاهتمام به، ومنها بدأ اهتمامه بعالم الشعر، دراسته للطب، كشفت له مكامن الإبداع في الكتب العلمية أيضاً.
مؤخراً.. أدى يحيى الفخراني دور الملك لير، للمرة الثالثة بثلاثة مخرجين مختلفين، مستنداً إلى علاقته الوثيقة بالنص وخبراته الطويلة والمتراكمة التي تشعر مشاهده، كأن الملك لير بعث من مرقده، فلا تستطيع الفصل بين الشخصيتين، فهو منغمس كلياً في الشخصية ومتوحد معها. لفت نظري أن الفخراني لم يتقاض جنيها واحدا عن العرض، إيمانا منه بأن "مسرح الدولة" يحمل رسالة، وتأكيدا على رغبته في أن تتجه الموارد المالية كلها إلى تحسين شروط إنتاج العمل.
العام الماضي استضاف معرض الرياض الدولي للكتاب 2024، الذي تنظمه هيئة الأدب والنشر والترجمة، ضمن برنامجه الثقافي، الفنان المصري يحيى الفخراني، وذلك في ندوة حوارية عنوانها "حياة في المسرح"، حاوره فيها الناقد الفني عبد المجيد الكناني، الممثل ومقدم البرامج السعودي وسط حضور كبير من أسماء فنية ومحبين وزوار، في اللقاء استعرض الفخراني ذكرياته مع المسرح الجامعي في كلية الطب بجامعة عين شمس، الذي تخرج فيه مسرحيون كُثر، في مقدمتهم عادل إمام، وصلاح السعدني، ومحمود عبدالعزيز، وكان حينها طالبًا في كلية الطب، وقد بلغ تعلقه بالمسرح، بأن يعاني صراعًا داخليًا بين الطب والفن، لولا تحفيز والده، وتخفيفه من وطأة هذا الصراع، وبدأت موهبته تسطع، وحصل على جائزة أحسن ممثل على مستوى الجامعات المصرية، وخلال دراسته تعرف على الدكتورة لميس جابر ونشأت بينهما قصة حب كبيرة.
وبعد تخرجه في كلية الطب عام 1971، عمل الفخراني كطبيب عام في صندوق الخدمات الطبية بالتليفزيون، وكان ينوي التخصص في الأمراض النفسية والعصبية، ولكنه عاش في صراع بين موهبته ومهنته، ولأنه يعيش بقلب مغامر قرر أن يترك الطب ويحترف التمثيل، وبدأت شهرته مع نجاحه فى المسلسل الاجتماعي الشهير «أبنائي الأعزاء شكرا»، وبعدها توالت أعماله الناجحة، وحصل على أول بطولة في مسلسل «صيام صيام» الذي عرض عام 1981، وتوالت بعدها العديد من النجاحات والإبداعات.
يحمل الفخراني من الصفات الإنسانية ما لا يقل عبقرية عن عبقرية التمثيل والأداء، يعرف معنى التسامح ويعيشه، تشبع بالسماحة الدينية التي غرسها فيه والده منذ صغره حين سأله عن الكنيسة فقال له الأب أنها بيت الله، ويمكنه أن يصلي فيها مع أصدقائه المسيحيين، قائلاً: «لما تدخل مع أصحابك المسيحيين ابقى اقرأ الفاتحة وكده يبقى بتصلى زيهم"، لذلك لم يقف اختلاف الديانة حائلاً أمام حبه فتزوج من حبيبته لميس جابر وأنجب منها ابنيه شادي وطارق، وله عدد من الأحفاد.
إنه حقا ضمير عصره، كفنان مثقف وواحد من أبرع الممثلين المصريين الملهمين للأجيال الجديدة، فنان لا يسقط بتقدم العمر، بل يزداد جمالاً وبهاء. أطال الله في عمره وعطائه.









