انتخابات مجلس النواب..
أطول استحقاق ديمقراطي في تاريخ مصر تحت سقف النزاهة والرقابة القضائية
الأصل في الديمقراطيات الفصل بين السلطات الثلاث تشريعية وقضائية وتنفيذية؛ وحين تتقاطع طرقها قد تهتز الدول؛ بيد أن التجربة المصرية شهدت تجانسًا وتكاملًا يتسق وإعلاء قيمة أصيلة بحق المواطن في اختيار من يمثله.
لم تكن انتخابات مجلس النواب 2025 مجرد تنافس تقليدي للحصول على ثقة الناخبين لاجتياز بوابات السلطة التشريعية والحصول على صفة نائب برلماني، بل اختبارًا ممتدًا لفلسفة الدولة في إدارة الاستحقاقات الديمقراطية.
صندوق الانتخاب ظل مفتوحًا لأشهر، لا بسبب ارتباك إداري أو خلل سياسي، بل نتيجة إصرار مؤسسي وقضائي على أن تكون النتيجة النهائية انعكاسًا دقيقًا لإرادة الناخبين، ولو تطلّب الأمر إعادة المشهد من بدايته في عشرات الدوائر؛ هكذا تحولت الانتخابات إلى الأطول زمنًا في تاريخ الحياة النيابية المصرية، لكنها في المقابل أصبحت الأكثر خضوعًا للتدقيق والمراجعة.
الرئيس عبدالفتاح السيسي رئيس الجمهورية ورأس السلطة التنفيذية والضامن للفصل بين السلطات، أكد استقلالية الهيئة المنوطة بإدارة المشهد الانتخابي، ودعمها سياسيًا بالتأكيد أن إعادة الانتخابات بالكامل - إن اقتضى الأمر - مطروح ضمانًا لتحقيق أعلى معايير النزاهة والشفافية.
وتزامن مع دعوة الرئيس السيسي، قرار من الهيئة الوطنية للانتخابات، بإلغاء النتائج في 19 دائرة بالمرحلة الأولى - التي تشمل 14 محافظة - يلي ذلك قرار من المحكمة الإدارية العليا بإلغاء نتائج الانتخابات في 30 دائرة أخرى.
تكامل السلطتين القضائية في رقابتها اللاحقة، والتنفيذية لضمان خروج السلطة التشريعية معبرة عن إرادة المواطن كان عنوانًا لحصاد الديمقراطية في 2025.
من الدعوة إلى الاقتراع إلى يناير 2026.. مسار زمني غير مسبوق
بدأت القصة في أكتوبر الماضي، حين دعت الهيئة الوطنية للانتخابات، الناخبين لانتخابات مجلس النواب، وفقًا لجدول زمني كان من المفترض أن تنتهي قبل نهاية العام 2025 بأيام.
تضمن الجدول الزمني تقسيم محافظات الجمهورية إلى مرحلتين وإقامة الانتخابات بنظامي الفردي والقوائم، ودخلت العملية الانتخابية حيز التنفيذ في نوفمبر، مع انطلاق جولات التصويت داخل البلاد وخارجها، غير أن المسار لم ينته مع إعلان النتائج الأولية، بل أعيد فتحه على نطاق واسع، ليستمر حتى الأيام الأولى من يناير 2026، في سابقة لم تعرفها الانتخابات البرلمانية المصرية من قبل.
إلغاء 19 دائرة وإعادة الانتخاب.. قرار "الوطنية للانتخابات" بحسابات قانونية
أحد أبرز أسباب إطالة أمد الانتخابات تمثل في قرار الهيئة الوطنية للانتخابات بإلغاء العملية الانتخابية في 19 دائرة، بعد رصد مخالفات من شأنها أن تؤثر على عمليتي الإقتراع والفرز بتلك الدوائر وتؤثر على جوهر العملية الانتخابية.
القرار لم يكن شكليًا ولا سياسيًا، بل استند إلى الصلاحيات المخولة لـ"الوطنية للانتخابات" - ذات التشكيل القضائي الخالص بمجلس إدارتها - بموجب قانون الهيئة، والذي يمنحها سلطة الإشراف الكامل على العملية الانتخابية وضمان سلامتها في جميع مراحلها، بما في ذلك إلغاء الانتخابات وإعادتها متى ثبت الإخلال بقواعد النزاهة أو تكافؤ الفرص.
واتسق قرار الهيئة وقانون إنشائها الصادر برقم 198 لسنة 2017، كهيئة مستقلة لها شخصية اعتبارية وتتمتع بالاستقلال تختص دون غيرها بإدارة الاستفتاءات والانتخابات.
وتمتد ثقة المواطنين في الهيئة لإدارة الاستحقاقات الديمقراطية؛ بما عبر عنه مخرجات "الحوار الوطني" باستمرار الإشراف القضائي على لجان الاقتراع، وهو ما تجسد في تولي مستشاري هيئتي النيابة الإدارية وقضايا الدولة إدارة الاستحقاقين الانتخابين في 2025 ممثلين في انتخابات مجلسي النواب والشيوخ.
الإدارية العليا تقضي بإلغاء نتائج 30 دائرة
لم تتوقف المراجعة عند حدود الهيئة، بل امتدت إلى الرقابة القضائية اللاحقة التي أقرها الدستور في بناء الدولة المصرية، ونظمه قانون الهيئة الوطنية للانتخابات، حيث أصدرت المحكمة الإدارية العليا - أعلى درجات القضاء الإداري بمجلس الدولة - أحكامًا قضت بإلغاء نتائج الانتخابات في 30 دائرة أخرى بالمرحلة الأولى، بعد نظر طعون أقيمت استنادًا إلى مخالفات مؤثرة في سلامة العملية الانتخابية.
هذا التدخل القضائي الواسع أعاد تشكيل الخريطة الانتخابية، وفرض جولات جديدة، ليصبح مجموع الدوائر التي أُعيد فيها الانتخاب رقمًا غير مسبوق في تاريخ البرلمان المصري.
ولم تتوقف مسيرة التكامل بين مؤسسات الدولة بل جاءت الاستجابة اللحظية والسريعة من الهيئة الوطنية للانتخابات، بإنفاذ قرارات القضاء، وإعادة دعوة الناخبين للمشاركة في جولة جديدة من انتخابات مجلس النواب في تلك الدوائر، والتشديد على مواجهة كافة أشكال الخروقات التي مست جوهر العملية الانتخابية؛ لتختفي في الجولات اللاحقة.
تكرار الجولات.. نزاهة مُكلفة لكن ضرورية
من السهل اختزال تكرار الجولات الانتخابية في كونه إطالة مرهقة للمشهد السياسي، لكن القراءة المتعمقة تفرض تفسيرًا مختلفًا؛ فإعادة الانتخاب في عشرات الدوائر لم تكن ترفًا إجرائيًا، بل ثمنًا مباشرًا للحرص على النزاهة والشفافية من الدولة المصرية بمشتملاتها كافة.
وكان الاختيار الواعي بمكانة الدولة في إطالة أمد الاستحقاق على تمرير نتائج يشوبها شك، يضمن أن من يصل إلى قبة البرلمان قد نال مقعده بتفويض حقيقي من الناخبين، لا بفعل ثغرة إجرائية أو مخالفة مؤثرة.
الكُلفة المادية واستمرار المنافسات فاتورة وطنية تحملها المتنافسون في تلك الدوائر والهيئة الوطنية للانتخابات، وأجهزة الدولة المعنية بتسيير تلك العملية الدقيقة، إضافة إلى الناخب (في الداخل والخارج) الذي تكرر توجهه وحرصه على الإدلاء بصوته في صناديق احترمت قراره وضمنت أن يكون يتجسد في تشكيل السلطة التشريعية المنتخبة.
هيئة مستقلة تدير ورقابة قضائية ضمانة إضافية.. نموذج دستوري وقانوني يتكامل
يكتسب هذا الاستحقاق أهميته أيضًا من زاوية استقلالية الهيئة الوطنية للانتخابات.
فالهيئة، وفقًا للدستور وقانون إنشائها، هيئة مستقلة ذات شخصية اعتبارية، تختص وحدها بإدارة الانتخابات والاستفتاءات، بدءًا من إعداد قواعد البيانات، مرورًا بالإشراف على الاقتراع والفرز، وانتهاءً بإعلان النتائج.
لكن هذه الاستقلالية لم تُصمم لتكون حصنًا مغلقًا، إذ أخضع المشرّع المصري قرارات الهيئة لرقابة قضائية لاحقة، في توازن دقيق بين الاستقلال والمساءلة.
وتتوزع جهات الطعن على النحو التالي أمام القضاء الإداري بمجلس الدولة، باعتباره المختص بنظر الطعون على القرارات الإدارية الصادرة عن الهيئة.
وكذلك المحكمة الإدارية العليا، بوصفها جهة الفصل النهائية في هذا النوع من المنازعات، ونظر الطعون المتعلقة بالنتائج.
وتشترك محكمة النقض، المختصة بالفصل في الطعون المتعلقة بصحة عضوية أعضاء مجلس النواب بعد إعلان النتائج.
هذا النسق القانوني جعل العملية الانتخابية محاطة بثلاث دوائر رقابية: إدارية، وقضائية، ودستورية ضمنية، وهو ما انعكس مباشرة في حجم الإلغاءات وإعادة الانتخابات.
الإطار التشريعي الحاكم للعملية الانتخابية
استندت الانتخابات في مجملها إلى حزمة من القوانين المنظمة، في مقدمتها قانون مباشرة الحقوق السياسية، الذي يحدد شروط القيد في جداول الناخبين، وضوابط التصويت، وجرائم الانتخابات وعقوباتها.
وقانون انتخابات مجلس النواب وتعديلاته، الذي ينظم نظام الانتخاب، وشروط الترشح، وآليات الفرز وإعلان النتائج.
وقانون تقسيم الدوائر الانتخابية، الذي يحدد التمثيل الجغرافي والسكاني لكل دائرة.
وقانون الهيئة الوطنية للانتخابات، الذي يرسم اختصاصاتها، وضمانات استقلالها، وآليات الرقابة على قراراتها.
تطبيق هذه القوانين بحرفية، لا بروح المجاملة السياسية، كان السبب المباشر في امتداد العملية الانتخابية زمنيًا.
قد تُسجَّل انتخابات مجلس النواب هذه بوصفها الأطول زمنًا، لكنها ستُقرأ سياسيًا وقانونيًا بوصفها من أكثرها تدقيقًا؛ فالمشهد النهائي، مهما طال الطريق إليه، أرسى معادلة واضحة: الشرعية لا تُقاس بسرعة إعلان النتائج، بل بقدرتها على الصمود أمام رقابة ذاتية وقضائية لاحقة لتنتهي تعبيرًا حقيقيًا عن إرادة الناخبين.
وفي هذا المعنى، فإن طول الاستحقاق لم يكن عبئًا على الديمقراطية، بل أحد مظاهر حراستها.









