الأحد 21 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
بوابة روز اليوسف

انعدام الضمير واضح للعيان، أن تترك حكومات العالم وعلى رأسها الولايات المتحدة شعبًا ‏أعزل فى غزة تفترسه أنياب جيش الإبادة الإسرائيلى بكل شراسة وخسة، ولا يحمونه إلا ‏بكلمات جوفاء مثل «ظروف لم تعد تحتمل، وضع كارثى يفوق التصور، ثم يخلدون إلى النوم ‏دون أحلام مزعجة!‏

أما الجنون فهو صناعة مقاول حرب، «جيوش» مرتزقة، يستخدمونها تكتيكيًا فى مهام قذرة ‏حول العالم كأنهم أبرياء من دماء الضحايا التي تلطخ أيديهم، فلا تطاردهم اتهامت التجرد ‏الإنسانية، ولا يخضعون للمساءلة، يفعلونها دون أن يفكروا فى أنهم «يربون» ذئابًا قد تبدو ‏مروضة الآن، لكنها فى المستقبل قد تتوحش وتعمل لحسابها الخاص، وتحول العالم إلى ملعب ‏مفتوح لنشاطها!‏

وهو ما تنبأت به السينما الأمريكية فى ألأفلام كثيرة، منها (القناص) للمخرج جوناثان ليمكين ‏فى عام 2007، عن عملية اغتيال سياسى يعارض مجموعة مصالح نفطية فى دولة أفريقية، ‏و(لقد سقط الملاك) للمخرج ريك رومان، عن مؤامرة لاغتيال رئيس أمريكى رفض التعاقد ‏مع مقاول حرب! ‏

وإليكم بعض وقائع مثيرة عن هذا الجنون..‏

لم يكن تعاقد حكومة إسرائيل مع شركة «يو جى سوليوشانز» الأمريكية للعمل فى غزة، إلا ‏تجسيدًا للشراكة الإسرائيلية الأمريكية فى ارتكاب جرائم الحرب ضد الفلسطينيين، و«يو جى ‏‏ سوليوشانز» شركة مقاولات عسكرية مقرها فى ديفيدسون بولاية كارولينا الشمالية، أسسها ‏جيمسون جوفانى فى سنو 2023، وهو جندى أمريكى متقاعد من القوات الخاصة، تعمل ‏لحساب من يدفع ثمن خدماتها! ‏

ويبدو أن الإدارة الأمريكية هى التي أوحت للإسرائيليين بفكرة الاستعانة بالمقاول العسكرى، ‏بعد أن نشرت صورة من باب الخطأ على حساب البيت الأبيض ثم حذفتها، كشفت أن بعضًا ‏من فرقة دلتا الشهيرة كانوا فى غزة، فقيل إن القوات الإسرائيلية حين ارتكبت مجزرة مخيم ‏النصيرات للاجئين فى 8 يونيو 2024، وسفكت فيها دماء 300 فلسطينى وأصابت ما لا يقل ‏عن ألف آخرين، لم تكن تعمل منفردة، ونالت مساعدات لوجستية مهمة وهى تهاجم بالطيران ‏والمدفعية والبحرية!‏

 

وحين أعلنت «جى يو» عن التعاقد مع مئة من المحاربين القدامى للعمل فى غزة، مقابل ألف ‏ومئة دولار للفرد يوميًا، ومقدم عشرة آلاف دولار، قالت فى خطابات التجنيد: إدارة نقاط ‏التفتيش للمركبات والأسلحة، وحراسة مواقع المساعدات الإنسانية.‏

لكن بعض المرتزقة أطلقوا الرصاص الحى على الفلسطينيين الذين يتكدسون من أجل كسرة ‏خبز أو قرص دواء أو جزء من خيمة تصد عنهم ولو مؤقتًا الموت جوعًا ونزفًا وعريًا ‏وتشريدًا، وقد فضح الجريمة اثنان من هؤلاء المرتزقة وكان يعملان فى مواقع توزيع ‏المساعدات تحت إشراف «مؤسسة غزة الإنسانية»، وهى منظمة أمريكية تأسست فى فبراير ‏‏2025، بدعم من الحكومتين الإمريكية والإسرائيلية، وبدأت عملها لتوزيع المساعدات ‏الإنسانية لأهل غزة من مايو الماضى، بعيدًا عن الأمم المتحدة، وقد اعترفا فى فيديو أذاعته ‏وكالة اسوشيتد برس»، بشرط عدم الكشف عن شخصيتهما، أن بعض زملائهم كانوا ‏يستخدمون الذخيرة الحية والقنابل الصوتية ورذاذ الفلفل الأسود ضد الفلسطينيين الذين ‏يحاولون الحصول على الطعام، وقدما الأدلة على صدق أقوالهما.‏

وعلى الفور أصدرت المنظمة الأمريكية بيانًا قالت فيه إن ادعاءات اسوشيتد برس كاذبة ‏بشكل قاطع، وأن إطلاق النار كان من الجيش الإسرائيلى بعيدًا عنهم!‏

وبعدها نشرت الشركة بيانًا على موقعها الإلكترونى فى 5 يوليو الماضى أدعت فيه أن ‏موظفيها تعرضوا لهجوم إرهابى أصيب فيه عضوان بإصابات لا تهدد الحياة، وهما فى حالة ‏مستقرة!‏

لم تكن هذه أول مرة تتورط فيه الولايات المتحدة مع شركة مقاول عسكرى أو بمعنى أدق ‏‏«مرتزقة».‏

حدث هذا فى العراق، مع شركة بلاك ووتر، التي ارتكبت مذبحة ميدان النسور فى عام ‏‏2007، وقتلت 17 عراقيًا مدنيًا بدم بارد، حين أطلق رجالها النار عشوائيًا على الحشود ‏العراقية، وزعموا أنهم تعرضوا للهجوم، وأثبتت التحقيقات كذبهم!‏

ومصطلح «مقاول» اخترعته الإدارة الأمريكية بديلًا مهذبًا لكلمة «مرتزقة»، حتى يقبله ‏مواطنوها ويتعاملون معه دون حساسية..‏ وصاحب فكرة المقاول العسكرى هو دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكى فى إدارة جورج ‏بوش الابن، إذ عقد اجتماعًا مع عدد كبير من القيادات العسكرية، فى العاشر من سبتمبر ‏‏2001، قبل الهجمات الانتحارية بالطائرات على مركز التجارة العالمى ومبنى البنتاجون بيوم ‏واحد، وقال لهم: أقوى خصومنا خطرًا عن أمن الولايات المتحدة هو بيروقراطية وزارة ‏الدفاع، نريد نقلة شاملة فى الإدارة ، وإحلال نموذج جديد محل هذه البيروقراطية مؤسس ‏على القطاع الخاص!‏

ومن هنا عرف «مبدأ رامسفيلد»، أى الاعتماد على مقاولى الحرب فى مهام تعرقلها ‏البيروقراطية.‏

وكتب رامسفيلد فى صيف 2002 مقالًا بعنوان: «تغيير الجيوش جذريا»، قال فيه: علينا أن ‏نعزز نهجًا مغايرًا ينفذه المقاولون، نهجًا يشجع الناس على أن يبادروا بالفعل الميدانى، وأن ‏يسلكوا مسلك الرأسماليين المغامرين لا البيروقراطيين!‏

ويبدو أن رامسفيلد قد اقتبس فكرته من ديك تشينى حين كان وزيرا للدفاع فى حرب تحرير ‏الكويت 1991، إذ كان 10 % من القوات الأمريكية فى منطقة العمليات بالخليج من القطاع ‏الخاص، وقبل أن يغادر منصبه، كلف شركة هاليبرتون، التي صار رئيس مجلس إدارتها فيما ‏بعد، بإجراء دراسة عن كيفية خصخصة البيروقراطية العسكرية!‏

وبالفعل صارت هاليبرتون المقاول العسكرى رقم واحد للحكومة الأمريكية!‏

وانتقلت الفكرة من الجمهوريين إلى الرئيس الديمقراطى بيل كلينتون، وهو ما يشى بأن ‏الاختلافات بين الحزبين هى خلافات فى تفاصيل وأساليب، وليست فى المفاهيم العامة، فلعب ‏مقاولو الحرب فى عصر كلينتون أدوارا أكبر فى السياسة الخارجية من سلفه جورج بوش ‏الأب، مثلا فى حرب كوسوفو، قامت مؤسسة مليتارى بروفيشنال رسورسز إنكوربريتد ‏ومقرها ولاية فرجينيا، بتدريب الجيش الكرواتى فى حربه الانفصالية ضد يوغسلافيا ‏الصربية، وكان عقدها مع إدارة كلينتون وليس مع الجيش الكرواتي!‏

 

وأشهر مقاول عسكرى عرفه العالم هو شركة «بلاك ووتر»، أسسها «إريك برينس» فى عام ‏‏1997، وهو ضابط سابق فى قوات النخبة بالبحرية الأمريكية، وكان لها 23 ألف جندى ‏منتشرون فى العالم، غير 21 ألف جندى تحت الطلب مسجلين فى دفاترها، يمكن أن ‏تستدعيهم عند الحاجة، وكانت تمثل 50 % من القوات الأمريكية التي خدمت فى العراق، ‏وهذا النمو الهائل أسقط الشركة فى شباك الغرور، فصارت تعمل بمفردها دون رأى الإدارة ‏الأمريكية فى عدد من الدول فى أمريكا اللاتينية التي بها نزاعات مسلحة، حتى أن «كوفر ‏بلاك» من كبار مديرها قال فى معرض سوفكس لمعدات القوات الخاصة فى عام 2006: ‏بلاك ووتر على استعداد لنشر قوات خاصة فى حجم لواء جيش فى أى منطقة صراعات أو ‏أزمات فى العالم.‏

والغرور مآله الانهيار، وكانت مذبحة النسور فى العراق التي فضحها الإعلام البداية، اعقبها ‏كتاب «بلاك ووتر..أخطر منظمة سرية فى العالم» للصحفى والكاتب الأمريكى جيريمى ‏سكاهيل، الذي روى تفاصيل مشينة عن عمليات الشركة، فعدل إريك برينس اسمها إلى «أكس ‏أى للخدمات»، ثم باعها فى 2011 وأعيد تسميتها إلى «أكاديمى».‏

المدهش أن هؤلاء المقاولين العسكريين وعددهم يقترب من الثلاثين جمعوا أنفسهم فى رابطة ‏واحدة باسم «رابطة عمليات السلام الدولية»، ووصفوا أنفسهم: أننا نعمل فى بيزنس السلام، ‏والرابطة تتكون من الشركات الأكثر مهنية ذات النظرة التقدمية الأخلاقية!!‏ حقًا إنه عالم مجنون!‏

 

نقلًا عن مجلة روزاليوسف

تم نسخ الرابط