السبت 20 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

فى البـــــدء

رسم: جمال هلال
رسم: جمال هلال

 الانتقال من درجة إلى درجة، مؤلمٌ وضاغط. يكاد جسده يتمدد لأقصاه، حتى يصل بين الدرجتين، فيستطيع الارتقاء درجة. 

يمد ذراعه اليُمنَى، ثم اليُسرَى، وهو يقذف بطنه وصدره للأمام، متجاوزًا درجة من درجات السلم الرخامى البارد. لم يبد أن برودته تزعجه، إنها تُسرّى عنه، وسط هذا الغبار الثقيل والحرارة الحادة. 

نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021
نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021

 

حاول زيادة سرعة تسلقه الدرجات بجسده الطرى، لكن السلالم بدت بلا نهاية، كلما اجتاز درجة برزت واحدة فوقها. 

بعد فترة من الألم والصراع المزعج وصل "البسطة" الأولى أمام شقة "كريم". تمطع مُقوسًا بطنه ونظر لأعلى؛ حيث امتداد الباب الخشبى. دق دقتين بكفه، مستندًا بنصف جسده على الباب، وبالنصف الآخر على العتبة، لكنَّ أحدًا لم يجبه. 

كان والدا "كريم"- كما اعتاد الجميع على سماعهما- يتعاركان، فى سباق للأكثر صخبًا والأعلى صوتًا. 

إنّ أمّه تتميز عن أبيه، بحركات ذراعيها وامتلاء وجهها المميز بحدود شفتيها، كأنهما تتمددان لحظة السباق. 

كرّر الدق والنقر والنداء، ولمّا يئس من الاستجابة، التفت بجسده لليسار، أكمل رحلته نحو الطابق الأعلى، متجاوزًا كل درجة أو سُلمة، وهو يتنهد، ويمسح بَلَلًا أحاط شفته السفلى، لا يسمع صوت والد "بولا" أبدًا، فصوته نحيف دقيق كجسده، يتكلم بهمهات لا تُفهَم. لم يملك "بولا" أمًا مثل الباقين؛ فكان يجوع كثيرًا. 

استمر صعوده. يضغط كفيه موسعًا بين أصابعه، مُحمّلًا أصابع قدميه المفرودة ثقل جسده كله، كانت عيناه تدوران، فى المساحة المحيطة به، تحاول أن تجد شيئًا جديدًا أو مميزًا فى هذا التشابه والمَلل. سُلم ثم سُلم ثم "بسطة" وباب خشبى.

 ماذا بعد ذلك؟ هل تستمر هذه الرُّؤى المتشابهة إلى الأبد؟ سيستمر فى صعوده؛ ليعرف ماذا بعد آخر باب خشبى وآخر "بسطة".

 "كريم" و"بولا"، سيكونان عونًا عظيمًا، لو استطاع إقناعهما بمشاركته الرحلة. سيصعدون أسرع إن تكاتفوا، حينها سيصلون للطابق الأخير، ثم يتجاوزونه سابحين نحو المتعة اللا نهائية. 

سيتأكدون ساعتها أن حكايات آبائهم وأمهاتهم، خيالات أو تهديدات، لمنعهم عن جنة الجنان وشاطئ المتعة الدائم. كان صوت "كريم" الرفيع المتقطع، يجاهد صاعدًا السلم، كى يصل لأذنه ضعيفًا باهتًا، كان يناديه، فهو يعلم أنها طَرقاته- التي يحفظها- على بابهم.

- تعال.. حصّلنى.

هدأت أنفاسه قليلا وهو متربع بساقيه، فى انتظار "كريم"، الذي سيصحب "بولا"، فى طريقهما للأعلى. هنا مقرّه السّرّى، الذي أسّسه وحده، فوق آخر "بسطة" من بسَطات السُّلم اللا نهائى. 

المَقّر يتكون من شاحنة بلاستيكية حمراء، بحجم المولود الجديد فى الشقة الأخيرة، ومسدسين أحدهما أسود محبب يطلق خرزًا- قد تعطل من يوم شرائه-، والثانى شفاف يطلق الماء، لمسافة لا تتعدى ذراع الرامى. كذلك الكثير من أوراق "الأچندات" و"النتائج الورقية"، التي سيستخدمونها كعُملة صالحة للبيع والشراء والمكافآت فيما بينهم. 

أحاط مستقره ومركز تحركه وخططه، بثلاث كراتين فارغة قد قطعها، وفرد ثنياتها، لتشكل سورًا حارسًا لكنزه السّرّى.

اليوم ليس أول محاولة له، للوصول لأعلى، لكنه اليوم الأول لـ "بولا" و"كريم".

 وصل رفيقَا الرحلة يلهثان ويتعرّقان، وبينما كان كفّا" بولا" حمراوين تمامًا من باطنيهما؛ لاستمرار ضغطهما بالسلالم والرخام، كان كفّا "كريم" مائلين للزرقة، وكأن دماءً لا تجرى فى عروقهما. 

رحّب بهما مُحرّكًا غلافًا لكراسة أخيه الأكبر- قد ضمه لمعداته - فوق وجهيهما، ليتأرجح الهواء حولهما، كبطلين اجتازا العقبة الأولى من المعركة، دون خسائر. 

كل ما عليهم، دفع الباب فى نفس الوقت الذي يحركون فيه المقبض. وجودهم كفريق ثلاثى يَسَّر العقبات، التي كان سيواجهها وحده؛ بل ألغى وجودها.

 صعد فوق ظهر "كريم" المستند على ركبتيه وكفيه، أدار المقبض نصف دورة بيديه الاثنتين وبقوته كاملة، فى نفس اللحظة التي كان فيها "بولا" يدفع الباب. 

بعد لحظة واحدة من تأرجحهما سقطا هما الاثنان فوقه.

"بولا" لم يصرخ، لم يتأوه ولم ينطق، كذلك فعل هو، بينما وجدا أنفسهما تلقائيًا يضعان أيديهما فوق فم "كريم"؛ الذي يصدر صراخًا متواصلًا حادًا، ربما يؤخر إكمال رحلتهم كثيرًا.

كان ينتفض ويحرك رجليه ويديه فى كل الاتجاهات، وهما يضغطان شفتيه وأسنانه أكثر، يعتليان بطنه، ويكتمان أنفاسه التي ستفضح تحركهما، وربما تؤجل بداية رحلتهما كثيرًا، وتكلفهما وقتًا لا يطيقان تحمل تكلفته، فتكرار المغامرة مُجهد، وغير آمن أن يكشفه واحد من الكبار.

 كان يموء ويصفّر كفأر اصطدته وأحرقته حيًا فى المصيدة. وهما يضغطان ويبتسمان، ويشعران بمتعة تفوق ألعابهما على "التابلت" و"الموبايل". 

خرجت الكلمة من فم "بولا"، هذا صوته الذي يحفظانه؛ بل ويتقن أحدهما تقليده، "مات"؟ 

كتما أنفاس "كريم" تمامًا، أُطلقت روحه فى الواسع الرحب، وكلما انطلقت روحه وتمددت انكمشا، واعتصر جسداهما روحيهما، تُضيق عليهما المساحة والفراغ، كان خوفهما من تأخر الرحلة، أو على الأصح اشتياقهما لبدء الرحلة ولامتصاص سعادة أبدية، كان هذا ما ضغط أرواحهما، فضغط جسداهما، فضغطا "كريم" و كتماه كتمًا. 

أفكارهما تتدفق، فى تسارع يفوق استيعابهما، قلباهما ينبضان كساعة اضطربت عقاربها، أيبدآن رحلتهما المأمولة، بجريمة تفوق أى جريمة، أهكذا تكون البداية؟ فكيف الطريق؟. 

أدار ظهرَه عابرًا جسد "كريم"، يخطو فوق مقرّهما الطفولى الحالم، ويهبط بسرعة لم يجربها قبلًا، فكان يتخبط برأسه وجسده- طوال طريقه الذي بدا له بلا نهاية- فى السلالم والدرابزين والرخام، كان يهبط، ويَسْبَح للأسفل، متجهًا نحو باب شقتهم الموارب، فى أمل وعزم متوهجين أمام عينيه، لم يلتفت للصوت الذي يسأله عن "كريم"، ولا للصوات الصاعد من الشارع، لم يُعر أدنى اهتمام للصوت الذي كان صراخه يتصاعد فوق البسطة الأخيرة، لم ينظر إلى أحد ولم يُسمِع أحدًا.  

تم نسخ الرابط