العم محمود السعدنى .. صادق الصعاليك والملوك
تحل اليوم الذكرى السنوية الثانية عشرة للولد الشقى العم محمود السعدنى، أبرز كتاب الصحافة المصرية الساخرين، حيث غادر الحياة الدنيا إلى الدار الآخرة فى «4» مايو 2010 عن عمر يناهز الـ«83» عامًا، تاركًا لقرائه فى مصر والعالم العربى زخيرة فكرية وأعمالًا أدبية ومهنية تحمل نقدًا سياسيًا واجتماعيًا لاذعًا لأوضاع المواطن العربى فى شكل ساخر، جعل منه إمام الساخرين في العربية.

العم محمود السعدنى كما كان يناديه الصحفيون، من علامات الصحافة المصرية ومن أعمدة الكتاب الساخرين، الذين تصعلكوا فى الحياة وعرفوا دروبها، تجول فى شوارع الدول العربية، وعرف حكامها عن قرب، كان يسخر بتسميتهم «عمد»، فالعالم العربى فى ملته واعتقاده دولة واحدة قسمتها الحدود السياسية والحواجز الجغرافية، وكل عمدة يحكم جزءًا منها، ففى طرابلس عمدة ليبيا، وفى بغداد عمدة العراق، وفى سوريا عمدة دمشق، بينما فى سابق الزمان لم يكن هناك حدود تقيد تحركات أبناء الوطن العربى الواحد.
فيقول الولد الشقى: «زمان فى بلادنا خرج رجل بسيط فقير مندهش على الدوام اسمه ابن بطوطة، خرج من طنجة بلاد الله لخلق الله، وذهب إلى تلمسان، ومن تلمسان الى الجزائر، ومن الجزائر على صفاقس، ومنها على طرابلس الى سيوه الى الإسكندرية ومن الإسكندرية إلى القاهرة، ومن القاهرة إلى غزة ومنها للقدس ثم إلى دمشق الشام إلى بغداد ومن بغداد إلى الحجاز ومن الحجاز إلى البحرين، ومن البحرين إلى مسقط الى صنعاء ومن صنعاء إلى عدن، ومنها إلى الصومال، ثم عاد حيث جاء ولم يستوقفه أحد، ولم يفتشه أحد ولم يسأله أحد إبراز الهوية أو الجواز ونزل فى كل مكان أهلًا وسهلًا.. ولقد تم هذا من ألف عام.. ترى أيتها الست الغندورة ماذا يحدث الأن لو جاء ابن بطوطة وأراد أن يلف بلاد العرب وأن يزور أبناء الأمة والعمومة الأعزاء؟".

أنجب الولد الشقى من الكتب 34 كتابًا، كان بكرها « الجزائر أرض اللهب والنار» مشاركة مع الكاتب اللامع الأستاذ الراحل محمد عودة، حيث تسللا إلى الجزائر وعايشا ثورة المليون شهيد لتحرير الأرض من الاحتلال الفرنسى، وتعرفا على قيادات المقاومة التي اعتلت السلطة بعد ذلك فى مقدمتهم الرئيس الراحل هوارى بومدين، الذي ساند مصر فى حرب أكتوبر 1973 عرفانًا بالجميل لدعم مصر فى عهد الرئيس الأسبق عبدالناصر لحركات التحرر، وكان صديقًا للرئيس الجزائرى السابق عبدالعزيز بوتفليقة، أحد أبرز رجال المقاومة فى شبابه.

لم تكن صداقة العم محمود مقصورة على قيادات الجزائر، بل ربطته صداقة بالرئيس الراحل معمر القذافى، والرئيس الراحل صدام حسين، ففى الخمسينيات ساند السعدنى ثورة يوليو 1952 والضباط الأحرار، وأيد سياسة الرئيس جمال عبدالناصر، وعقب رحيله، عارض السادات بالسخرية اللاذعة، التي جعلته ضمن قائمة الماثلين أمام محكمة الثورة فى قضية مراكز القوى التي حوكم فيها عدد من رموز النظام الناصرى بتهمة الترتيب لانقلاب على السلطة، وكانت تهمة السعدنى إطلاق نكات ساخرة عن السادات وزوجته جيهان، وحكم عليه بالسجن عامين، وكما يروى السعدنى فإن العقيد القذافى تدخل لدى السادات للافراج عنه، غير أن السادات رفض، وقال «لقد أطلق النكات على أهل بيتى ولازم يتربى لكن لن نُفرط فى عقابه».

وخرج السعدنى بعد انقضاء المدة، ففصله السادات من مجلة صباح الخير الصادرة عن مؤسسة روزاليوسف، والتي كان يرأس تحريرها بالمشاركة مع الأستاذ الكبير لويس جريس، وأمر السادات بألا ينشر اسم السعدنى فى أى صحيفة مصرية، حتى فى صفحة الوفيات فلم يجد بدًا من النفى الاختيارى، وسافر إلى لبنان ثم بريطانيا، ومنها للامارات ثم الكويت والعراق، وواجه صعوبات فى الحصول على فرصة عمل فى الصحافة العربية حيث خشى كل منها من غضب الرئيس الراحل أنور السادات، وكتب السعدنى بصعوبة فى جريدة السفير بأجر صحفى مبتدئ، وقبل اندلاع الحرب الأهلية فى لبنان غادر السعدنى للقاء القذافى فى ليبيا، بناءً على طلب العقيد الذي عرض عليه تمويل صحيفة له يصدرها فى لبنان، إلا أن السعدنى رفض خشية إغضاب مالكى الصحف اللبنانية، وعرض عليه القذافى الكتابة فى صحيفة ليبيا «الفجر الجديد» فما كان من السعدنى، إلا أن غلبت عليه طبيعته الساخرة فنعتها دون قصد بـ «الفقر الجديد» فانتهت المقابلة إلى لا اتفاق، وسرعان ما غضب العقيد على السعدنى لكتاباته اللاذعة، حيث تمكن فى لندن من إصدار جريدة 23 يوليو، وهى أول صحيفة عربية تصدر فى لندن متبنية لافكار الثورة والخط القومى العربي، ونجحت نجاحًا كبيرًا وكانت تدخل عددًا من الاقطار العربية فى مقدمتها مصر عن طريق التهريب لمنع تداولها.
واللافت أن السعدنى، فوجئ بوضعه على قوائم الاغتيالات التي يستهدفها القذافى ونظامه لمعارضته له،ففى عام 1988 أعلن الدبلوماسى الليبى سالم السعيطى استقالته من البعثة الليبية لدى الأمم المتحدة، وعقد مؤتمرًا صحفيًا أعلن من خلاله عضويته فى الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا، التي انضم إليها منذ أن كان يعمل مسؤولًا فى الخارجية الليبية، وكان أحد القلائل من كبار المسؤولين فى الخارجية الذين لهم الحق فى الاطلاع على الوثائق السرية للخارجية.

وكان من المعلومات التي أفشاها الدبلوماسى الليبى فى مؤتمر صحفى، محاولات اغتيال إعلاميين عرب توانسة إلى جانب محمود السعدنى، والكاتب الكويتى أحمد الجار الله، فقرأ السعدنى ما أذيع فى المؤتمر وكتب مقالًا ساخرًا لاذعًا من القذافى حمل عنوان «يمه العقيد على الباب» سخر فيه من القذافى وسياسته ونظامه.

فى عام 1976 ضاقت بالسعدنى سبل العيش بسبب آرائه السياسية، فوصل إلى أبوظبى للعمل كمسؤول عن المسرح المدرسى فى وزارة التربية والتعليم فى الإمارات، ولم ترق له الفكرة، لذا قبل بالعرض الذي تقدم به عبيد المزروعى، وهو إدارة جريدة الفجر الإماراتية، وسرعان ما ترك الصحيفة بعد أن صودر عدد منها بسبب منشيتاته القوية، وكانت إيران أكثر الدول الرافضة لسياسته، حيث حملت الجريدة شعار «جريدة الفجر جريدة العرب فى الخليج العربى» بينما كانت ولا تزال إيران تسعى لترسيخ فكرة أنه الخليج الفارسي، وتحتل ثلاثًا من الجزر الإماراتية، بل كانت حينها ترى أن الإمارات جزء من الأراضى الإيرانية.

السعدنى ملك السخرية السياسية، أثرت نشأته فى فكرة ومحصلة خبراته بشكل قد لا يتوافر لصحفى سواه، فقد امتلك الموهبة، ونشأ وسط البسطاء والفقراء فى محافظة الجيزة، وكان مقهى عم إبراهيم نافع مقرًا له يلتقى فيه كبار الكتاب والفنانيين والصحفيين، فى الستينيات والسبعينيات، قبل أن يسجن ويرحل عن مصر، فقد عاش حياة الصعلكة وصادق الملوك، وطاف أرجاء الوطن العربى واطلع على ثقافات أوروبا، وأسس نادى الصحفيين فى شارع البحر الأعظم بعد أن استقر فى مصر، وجعل منه ملتقى فكريًا وأدبيًا، غير أن النادى فقد بريقه باستسلام مؤسسه للمرض ثم الرحيل.
من مفارقات الزمن أن السعدنى من مواليد 20/11/ 1927 وهو نفس اليوم والشهر الذي ولد فيه جده لأمه الشيخ خليل معوض بقرية ترعة سق مركز الباجور منوفية، وهو الجد الذي ارتبط به بشدة وتولى تربيته فى مراحل عمره المبكرة فتأثر به وأشترى 9 قراريط بالقرية ليبنى بيتًا ويكون إلى جواره، غير أنه باعها بعد وفاة جدة عام 1984، غير أن المفارقة لم تنته حيث شهد ذات اليوم والشهر ميلاد نجله الزميل والكاتب الصحفى البارز بمجلة صباح الخير أكرم السعدنى.

رزق السعدنى بـ 5 أبناء هم: أكرم وهالة وأمل وهبة وحنان، واصل نجله الكاتب الصحفي أكرم السعدني الكاتب الصحفي بمجلة صباح الخير ومؤسسة روزاليوسف، مسيرة والده، فكان السعدني يرى في أسرته وأحفاده عالمه الذي تفرغ له في نهاية حياته باعتزال الكتابة عام 2006، لظروف مرضيه، بيد أن القدر لم يمهله فلاحقه بانتزاع جزء من فلذة كبده، ابنته هبة التي صعدت روحها إلى الرفيق الأعلى عام 2007، فظل يقاوم المرض والحزن حتى رحل عن عالمنا فى مثل هذا اليوم 4 مايو 2010، فيما كانت آخر مؤلفاته حكايات "قهوة كتكوت".. فياله من إنسان كان يسخر حتى من الآلام.



