السبت 20 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

سور الصين العظيم شاهد على عظمة الصينيين وقدرتهم على إنجاز المشاريع العملاقة

سور الصين العظيم
سور الصين العظيم

مليار وأربعمائة مليون نسمة، ستة وخمسين عرقية وعشرات اللغات واللهجات وعدة أديان مختلفة.. فسيفساء ترسم بألوانها وعناصرها المتعددة معالم حضارة رست جذورها قبل الميلاد بالآلاف السنين.

حتى زمن بعيد كانت بلاد التنين مكتفية بحضاراتها الضاربة في عمق التاريخ بتعددية مكوناتها الثقافية وتنوع تضاريسها ووفرة مواردها.

بهذا الشعور انطلقنا من جنوب شرق العاصمة الصينية بكين؛ حيث مقر سكاننا إلى موقع التنين الحجري أو ما يعرف بـ"سور الصين العظيم"، إحدى عجائب الدنيا السبع، أيقونة القوة الصينية ومقصد الآلاف من الزوار من مختلف أنحاء العالم.

بدا الطريق الذي يأخذنا إلى أكبر وأعظم بناء أقامته البشرية على الإطلاق والذي قال عنه الزعيم الصيني ماو تسي تونغ ذات مرة: "كل من لم يتسلق سور الصين العظيم ليس بطلًا". وكأنه ينبئ برحلة مثيرة ومغامرة شيقة.

انتقلنا بين شوارع مُهيبة تشي باقترابنا من معلم يكاد يجاور القمر.. استغرق الوقت ٩٠ دقيقة؛ وقبل أن نفكر هل سننتقل يمينا أم يسارا كانت الإجابة ليس هذا مهما فجميع الطرق حتما تؤدي إلى سور الصين العظيم.

نعم ها نحن ذا قد بلغنا سفح السور؛ وحانت ساعة الارتحال إلى الأمس البعيد.

سور بناه الصينيون قبل أكثر من ألفي عام، وهو يمتد على قرابة تسعة آلاف كيلومتر- ستة آلاف للجدار وقرابة ٤٠٠ كيلومتر للخنادق، وأكثر من ألفي كيلومتر عبارة عن حواجز طبيعية كتلال وأنهار.

مئات الآلاف من الصينيين شاركوا في بنائه وعشرات الآلاف منهم دفنت أجسادهم تحت هذا السور الذي يعبر الوديان والصحاري والجبال الشاهقة.

الوصول إلى قمة السور لم يكن سهلًا كما توقعت قبل المجيء، فهو يتطلب تسلق المرتفعات مشيًا على الأقدام.. ولكن في طريقك ستبهرك الطبيعة بجمالها الآسر وتأخذك روعة التصميم العسكري.. هناك ممرات تضيق وتتسع وأبراج مراقبة كل مائة متر تقريبا.. خلال وجودك على قمة السور ستشعر كثيرا بالسعادة وبقيمة حضارية كبيرة.

فالسور العظيم، الذي اعتبرته منظمة يونسكو التابعة للأمم المتحدة تراثا إنسانيا عام 1987، وصنف عام 2007، ضمن عجائب الدنيا السبع الجديدة؛ تحول إلى مزار سياحي يقصده الصينيون والأجانب من جميع الجنسيات، فهو يجذب الجميع ولسان حالهم يقول: "صعود القمة لعلو الهمة".

ويبدو أن السلطات الصينية واعية تماما بأهمية هذا المعلم التاريخي والسياحي والتجاري أيضا ولهذا توفر كل الظروف اللازمة لاستقبال السياح خاصة بعد إعادة فتحه مجددا منذ قرابة الشهر مع تخفيف إجراءات الحجر الصحي والإغلاق. 

والقسم الأكثر زيارة لسور الصين العظيم من قبل السياح يقع في منطقة "بدالين" بالقرب من بكين، وتم بناؤه خلال عهد "أسرة مينغ"، ويبلغ تعداد زوار سور الصين، سنويا- حسب إحصاءات رسمية- أكثر من مليون سائح، فالبرنامج الأول لكل زائر للصين، زيارة سور الصين العظيم والتقاط صور بجوار رمز الصين الأشهر.

ويعرف "سور الصين العظيم " بأنه أعظم سور تم تشييده في التاريخ المعماري البشري، وتم ذلك على فترات وليس مرة واحدة، ويناهز طوله 6400 كيلومتر– ممتدة من حدود شبه الجزيرة الكورية حتى صحراء خوبي. ويتراوح معدل سمكه من 5 إلى 7 أمتار، بينما يتراوح معدل ارتفاعه من 5 إلى 17 مترا، وهو يشكل معلما معماريا تاريخيا ذا طابع عسكري دفاعي وأصبح مع الوقت رمزا للأمة الصينية، بتحصيناته وعظمته وقوته. 

والسر في عظمة سور الصين، أنه يمر بتضاريس جغرافية مختلفة ومعقدة، حيث يعبر الجبال والأجرف ويخترق الصحراء ويجتاز المروج ويقطع الأنهار.

لذلك، فالهياكل المعمارية للسور مختلفة وغريبة أيضا، إذ بني السور في المناطق الصحراوية بمواد مكونة من الأحجار المحلية ونوع خاص من الصفصاف نظرا لشح الصخور والطوب. أما في مناطق هضبة التراب الأصفر شمال غربي الصين، فبني السور بالتراب المدكوك أو الطوب غير المحروق، لكنه متين وقوي لا يقل عن متانة السور المبني بالصخور والآجر. 

وبني السور في عهد "أسرة مينغ" الملكية، وغالبا من الطوب أو الصخور أو بخليط من الطوب والصخور. وتوجد قناة على قمة السور لأجل صرف مياه الأمطار تلقائيا وحماية السور. وبالإضافة إلى دوره العسكري، فقد أثر سور الصين العظيم على التنمية الاقتصادية الصينية أيضا، فاتجاه سور الصين متطابق تقريبا مع الخط الفاصل بين المناخ شبه الرطب والمناخ الجاف في الصين، وأصبح فاصلا بين المناطق الزراعية والمناطق البدوية. 

ووفق التاريخ المكتوب لسور الصين العظيم، فقد وحد الإمبراطور الصيني "شي هوانغ دي" ما يعرف في التاريخ الصيني بالممالك المتحاربة، عام 221 قبل الميلاد مؤسسا أول دولة موحدة ذات سلطة مركزية في تاريخ الصين. وكانت تلك الممالك قد وضعت أسوارا لحماية أراضيها، فقام الإمبراطور "هوانغ دي" بربط تلك الأسوار- التي بنتها تلك الممالك المتحاربة- صدا للعدوان الخارجي وضبطا للحدود. 

وقد بلغ السور حينها 5000 كيلومتر. ثم واصلت الأسر الملكية المتعاقبة في الصين بناء السور وزيادته باطراد، حيث استغرق بناؤه أكثر من 2000 سنة وأُكمل بناء الجدار رسميًا عام 1644، ومنذ ذلك الحين لم تُقم أي أعمال أخرى عليه، عدا الأعمال الضرورية للحفاظ على الجدار. 

ويتكون سور الصين العظيم من الحيطان الدفاعية وأبراج المراقبة والممرات الاستراتيجية وثكنات الجنود وأبراج الإنذار، وغيرها من المنشآت الدفاعية. كما ينقسم السور إلى مناطق إدارية عسكرية، وكان لكل منطقة في القديم رئيس مستقل ومسؤول عن إصلاح السور داخل منطقته وترميمه، وهو مسؤول أيضا عن الشؤون الدفاعية في المنطقة أو مساعدة المناطق العسكرية المجاورة في شؤونها الدفاعية. 

وتعتبر الممرات الاستراتيجية أهم مواقع دفاعية على خط السور، وتقع تلك الممرات عادة في مواقع صالحة للدفاع بغية مقاومة المعتدين. تعلوها أبراج الإنذار، التي وجدت لإرسال ونقل المعلومات العسكرية. 

وأسلوب نقل المعلومات كان سهلا وعمليا، ويتمثل في إطلاق الدخان نهارا وإشعال النار ليلا، ويتميز هذا الأسلوب بسرعة نقل المعلومات ومعرفة جهة الأعداء من عدد المواقع التي انطلق منها الدخان أو أشعلت فيها النار. 

وكانت آخر المعارك التي شهدها سور الصين العظيم عام 1938 خلال الحرب الصينية-اليابانية، التي كانت بين جمهورية الصين وإمبراطورية اليابان، حيث يمكن رؤية علامات الرصاص على جدار السور. 

سور الصين العظيم شاهد على عظمة الصينيين وقدرتهم على إنجاز المشاريع العملاقة.. كما أن هذا التنين الحجري الصامد منذ أكثر من ألفي عام يفسر لماذا الصين قوية دائما!

تم نسخ الرابط