صيحة الفقر :
وكما عودناكم دائما . مازال الزمن يضرب بلا رفق ولا هوادة . وبأيد غير حانية . وجوها هرمت وقد بلغت من الكبر عتيا . وزحفت عليها نيران الشيب كزحف النار فى الهشيم . حتى أنها لم تعد تحتمل مرور نسمات غير عليلات فقط من جوارها. بعد أن بليت ملامحها وتآكلت معالمها إثر احتكاكات خشنة مع ثمانين عاما من اراذل العمر . وصل فيها الأمر إلى حد التشابك بالأيدى مع ايام ضنينة الشفقة . شحيحة الذوق. ما راعت وهنا على وهن حط تباعا فوق كاهل الرجل . ولا جراحات رانت على قلبه السقيم . ولا أحداث عصفت به . عصف ريح صرصر عاتية سخرها عليه القدر ثمانين عاما حسوما . أضحت فيها آماله صرعى كأنها أعجاز نخل خاوية . ما راعى خلالها القدر شيبا إشتعل فى الرأس . ولا تجاعيداً تنبئ عن أن الرجل لم يعد يحتمل . بعد أن فاض الكيل . وبلغ السيل الزبى. ولم يعد فى قوس صبره منزع . وبات احتماله آخذاً فى النفاذ ...
تشاجر الرجل مع أيامه ولياليه لسنوات عديدة . الى أن أتم بعد معاناة زواج ابنتيه . اللتان أقامتا فى محافظات تبعد عنه كثيرا نظراً لظروف عمل أزواجهن. متمنياً أن يظلهم الله بظلال المودة والرحمة وان يكون كل منهما سكنا للآخر. وبعد أن مر قطار زواجهما فوق جسده وعافيته . جاراً خلفه كل ما إدخره الرجل وكل ما قبضه ثمنا لآخر أملاكه التى باعها كى تعينه على نفقات زواج ابنتيه . وقد خرج الرجل من معركته هذه منهك الروح والجسد . بعد رحلته الشاقة التى تضرب لها أكباد الرجال سنينا ...
دارت رحى الأيام ثقيلة عليلة . وكأن سفينة ًتمشى على اليبس أو قطارا يبحر. فلم يعد بين فكيها ما تطحنه . اللهم إن كانت عظام الرجل التى افلت بها . فلم يعد لها دخل ولا خرج . الا من جنيهات قليلات يتقاضاها الرجل كمعاش شهرى ينتظره عند حافة كل شهر . دونه خروج الروح . تستند تلك الجنيهات القليلات على أخوات لهن يأتى بهن الإبن الذى يعمل فى وظيفة متواضعة تدر عليه بعضاً من قطرات أمطار الصيف التى سرعان ما تتبخر لشدة عطش الأرض التى تتساقط فوقها . هذا الإبن الذى تزوج فى بيت أبيه بعد أن تعذر عليه العيش فى مسكن منفرد . وقد أنجب إبنا بلغ من السنين ثلاث وفى انتظار وافد جديد بعد أربعة أشهر تقريبا ...
اشتد شظف العيش بالأسرة . ما عادت تكفيهم تلك الجنيهات القليلة . فهم الخمسة وسادسهم حفيدهم الحاضر الغائب . فلا يعلم ما فى الأرحام الا الله . ويعلم ما تغيض الأرحام وما تزداد . والذى ليس الذكر عنده كالأنثى . ولاعند من يتخيرون منه سبحانه وتعالى . ولكن لا فرق عند هؤلاء ذكر كان أم أنثى . فهى نفس ستأكل وتشرب ... أحكمت حلقة الفقر والحاجة الخناق حول رقابهم . باتت نفقات المأكل والمشرب متعذرة . تعذر عليهم إطعام طفل ومولود هو قادم لا محالة . تعذر عليهم نفقات علاج أب داهمته الأمراض . ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم . وظنوا أن لا ملجأ من الفقر الا سفر الإبن ....
حزم الإبن حقائبه بعد أن قدم آخر ما كان يتحلى به معصم الزوجة قربانا للسفر .الذى لا يعلم جدواه الا الله . غادر الإبن تودعه دموع أم ثكول . وقلب أب ارتطم بما لم يكن يتمناه لإبنه الوحيد . وخفقان قلب زوجة لا يدوى طنينه الا فى أذن الزوج . ونظرات طفل تدور عيناه لا يعرف ماذا يحدث من حوله ....
وصل الابن الى حيث كان قاصداً . راح يعمل بجد ليل نهار . عساه أن يعود لأسرته بما يخلف عليهم سنوات الجفاف . آملا أن يعود لينفق الأب من مال ولده كيف يشاء . تمنى أن يحيا أبوه ما تبقى من العمر حياة كريمة بعد أن قدم كل ماله لأولاده . فهما زينة الحياة الدنيا . راض بالباقيات الصالحات فهى خير عند ربه ثوابا وخير أملا ...
مرض الأب واشتد به المرض . هاتفت الزوجة زوجها المسافر أن يحضر لشدة مرض ابيه . لملم الإبن أشلاء غربته وبقايا آمال كسيرة النفس وعاد الى حيث سيرته الأولى آسفاً حزيناً . فلم تمهله الشهور الأربعة التى قضاها فى غربته فى أن يحقق لأبيه ما كان يتمناه . عاد الإبن ليجد والده طريح الفراش يصارع المرض . وتصارع زوجته أيضا تقلصات جنين فى أحشاءها . إيذانا بقرب قدومه بعد أن دخل شهره التاسع ...
حار الإبن قرابة الشهر . بين أب على شفا الرحيل . وأم زاغ بصرها . وزوجة على اعتاب الولادة . حار الإبن بين اليأس الذى يطل من غرفة أبيه . وبين الرجاء الذى بدأت ملامحه تزحف على أرض غرفة الزوجة . بين غروب وشروق. بين روح مغادرة وروح قادمة . تضرع الإبن الى الله آملا منه العون والسند بعد أن ضاقت اليد وضاق به الحال . فلن يلج فى سم خياطه جمل . ليحيك قدراً من التفاؤل . الى أن جاء يوم دوى فيه صوت حشرجة قوية من غرفة الأب لتعلن عن رحيله .. ودوت فيه أيضا صرخة قوية من غرفة الزوجة لتعلن عن قدوم الحفيد ..وقف الإبن شاردا حائرا يصيح بأعلى صوته : لو كان الفقر رجلا لقتله الإمام على .. ولو كان حقا رجلا ما فعل بنا ما فعل . أسرعت الأم تهدهد وتربت على كتف ابنها وتقول ياولدى : لله ما أعطى ولله ما أخذ ......... إن يقض شيخ هرما ......... فمكانه طفل جديد
خلق يموج ببعضه .......... والله يحكم ما يريد
يابنى : ( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ) ... صدق الله العظيم ...



